﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾.هذه الآية جمعت أصول العرض والطلب.﴿وشروه﴾ أي باعه السيّارة، وهم الذين مروا على البئر وأدلى واردُهم دلوَه فوجد يوسف عليه السلام. يقال: "شرى" أي باع، و"اشترى" أي ابتاع. فهي من الألفاظ المتقابلة. وفيه دلالة أن المشتري والبائع متكافئان وأن الهدف من البيع هو منفعة كل منهما.﴿بثمن بخس﴾ البيع مبادلة بين سلعة وثمن. ووصف القرآن الثمن بأنه بخس، أي قليل، وذلك بالنظر إلى القيمة الفعلية أو الذاتية ليوسف عليه السلام لو فرض أنه مملوك يباع. فالقوم لم يعرفوا قيمة الغلام وما يملكه من المهارات التي يمكن أن تدر على صاحبها أضعاف الثمن. فالآية إذن تنبيه على أن أحد عناصر التقييم هو القيمة الذاتية للمبيع، أي مقدار ما يولده من الإيرادات لمالكه، وهو يقابل ما يعرف بالقية الحالية (PV).وواضح أن العزيز الذي اشترى يوسف عليه السلام من السيارة كان يتوسم فيه مخايل النجابة، ولهذا قال لامرأته: ﴿أكرمي مثواه﴾، فهو عرف قيمته، بخلاف السيارة الذين زهدوا فيه، كما سيأتي.﴿دراهم معدودة﴾ الدرهم من الفضة بينما الدينار من الذهب. وكان الدينار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعادل تقريباً ١٠ دراهم. قال المفسرون: كانوا لا يزنون ما دون أوقية وهي أربعون درهماً. والآية إشارة إلى وظيفة الدراهم والدنانير وهي أنها أثمان للسلع والخدمات.﴿وكانوا فيه من الزاهدين﴾ هذا هو الجانب الآخر في تحديد الثمن، وهو الرغبة التي تعكس التقييم الشخصي (subjective value). في حين تندرج القيمة الذاتية ضمن التقييم الموضوعي (objective value). وقد ظل الاقتصاديون فترة من الزمن في جدل أيهما يحدد الثمن، وانتهى بهم الأمر إلى أنه مجموع الأمرين.والآيات تشير إلى سبب زهد السيارة بيوسف عليه السلام، وهو أنهم لم يتكلفوا شيئاً في الحصول عليه، بل وجدوه صدفة، ولهذا قال واردهم: ﴿يا بُشرى﴾. ولا تناقض بين استبشارهم بالغلام وبين زهدهم فيه، لأنه كان بالنسبة لهم بضاعة مجانية، فأي ثمن بيع به فهو ربح لهم. فلما كانت تكلفة يوسف عليه السلام بالنسبة لهم صفراً تقريباً، ولم يعرفوا قيمته الحقيقية، كانوا فيه من الزاهدين. وهذا لا يمنع أن تتأثر الرغبة بعوامل أخرى عديدة.الخلاصة أن الآيات جمعت أهم عناصر التقييم: القيمة الذاتية والتكلفة والرغبة. الأولان يندرجان ضمن الجانب الموضوعي، والأخير ضمن الجانب الشخصي. والثمن يتحدد بمجموع الأمرين، والله أعلم.
03 فبراير, 2020 - 07:04 م
لماذا دعا قوم سبأ أن يباعد بين أسفارهم؟ذكر المفسرون أن قوم سبأ كانوا يسافرون من اليمن إلى الشام، وكان المسافر يجد في كل مسافة نصف يوم تقريباً قرية ليستريح فيها ويأكل ويشرب. فكان المسافر لا يخاف ولا يحتاج إلى مؤنة لهذا السفر البعيد. ﴿وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمۡ وَبَیۡنَ ٱلۡقُرَى ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَا قُرىً ظَـٰهِرَة وَقَدَّرۡنَا فِیهَا ٱلسَّیۡرَۖ سِیرُوا۟ فِیهَا لَیَالِیَ وَأَیَّامًا ءَامِنِینَ﴾.ما حصل بعد ذلك شئ غريب. أراد القوم أن تطول المسافة بين كل قرية وقرية، وأن يصبح السفر أكثر بعداً وكلفة ومشقة. لكن لماذا؟ذكر المفسرون سببين.الأول: فعلوا ذلك ليتطاول الأغنياء على الفقراء. فالغني هو الذي يملك الزاد والراحلة النجيبة التي توصله المسافات البعيدة. فإذا تباعدت القرى قلّ عدد المسافرين، وصارت هذه القرى وخدماتها مقصورة على القلّة أو النخبة، فتزداد متعتهم بذلك على حساب الأغلبية من غير القادرين.الثاني: مع تباعد السفر ترتفع تكلفة التجارة ومن ثم ترتفع أرباحهم منها. تقارب السفر يقلل المخاطر ومن ثم يقلل التكلفة، وهذا يعني انخفاض الأرباح. أما مع تباعد السفر وارتفاع مخاطر النقل والسفر، سترتفع الأرباح.يا سبحان الله! هذا هو بالضبط ما يحصل في النظم الرأسمالية. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، لا تريد شركات التأمين الطبي أن يحصل جميع المواطنين على الضمان الطبي، لأن هذا يقلل أرباحهم. يريدون رفع تكلفة العلاج والدواء من أجل زيادة أرباحهم، ولكن هذا بالضرورة يجعل نسبة كبيرة من الناس غير قادرة على الحصول على الخدمات الطبية. وهكذا الحال في سائر السلع والخدمات.القِلّة يريدون تركيز الثروة والاستئثار بها، ولكن هذا يقتضي جعلها بعيدة المنال بالنسبة للغالبية من الناس. عندما يصل مجتمع إلى المرحلة التي يجعل فيها الخدمات العامة ”بعيدة المنال“، فهذا مؤذن بخراب هذا المجتمع ونهايته.***بقي أن يقال: إن العذاب الذي نزل بقوم سبأ لم يقتصر على الأغنياء فحسب، بل شمل الغالبية منهم: ﴿وَلَقَدۡ صَدَّقَ عَلَیۡهِمۡ إِبۡلِیسُ ظَنَّهُۥ فَٱتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِیقاً مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾. وهذا يعني أن الغالبية، حتى من غير الأغنياء، كانوا مؤيدين لهذه ”الخطة الاقتصادية“. فما الذي يجعلهم يؤيدون خطة تخدم الأغنياء على حساب مصلحتهم؟هناك أكثر من سبب قد ينخدع به هؤلاء، قد يكون من أبرزها الأمل أن يلحق الفقير بركب الأغنياء. فإذا رأوا أن أرباح التجارة ارتفعت صار كل واحد منهم يؤمل أن يكون من الرابحين. طبعاً يستحيل أن يربح الكل في هذه اللعبة، بل من يربح سيكون على حساب من يخسر. لكن الوهم الخادع يجعل كل واحد منهم يمنّي نفسه أن يكون هو الرابح وغيره الخاسر. والنتيجة أن الغالبية يؤيدون هذه السياسات التي تنتهي إلى خسارتهم لمصلحة الأغنياء.الحقيقة المؤسفة أن كثيراً من الناس ينقاد بسهولة لذوي النفوذ، حتى لو كان ذلك في غير مصلحتهم. انظر كيف يؤيد أتباع ترمب سياساته الفاشلة مع أنها في النهاية تضرهم ولا تخدم سوى القلة فاحشة الثراء.
31 يناير, 2020 - 08:34 م
﴿ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإثمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة، ١٨٨]. ذكر القرآن الكريم في هذه الآية نوعين من أكل المال المحرّم: أحدهما بالباطل، والآخر بالإثم. فما الفرق بينهما؟ يظهر والله أعلم أن معنى الآية أن يقوم الشخص بأكل مال أخيه بالباطل، أي بغير حق. ثم يأخذ هذا المال ويتقرب به إلى الحاكم من خلال تقديم خدمة مثلاً أو منفعة مما هو في نفسه مباح. فيعوضه الحاكم مقابل ذلك من بيت مال المسلمين، والحاكم لا يعلم أن المتزلف كان مبطلاً حين حصل على المال الذي قدّم بموجبه هذه الخدمة. فأكْلُ المتزلف للمال الذي بذله الحاكم من بيت مال المسلمين هو أكلٌ للمال بالإثم، لأنه وإن كان في مقابل خدمة مشروعة في نفسها على أحسن تقدير، لكنه حصل من خلال أكل المال بالباطل. ووصف الأكل الثاني بالإثم لأن الحاكم يُفترَض أنه بذل من بيت مال المسلمين بحق ومقابل أمر مشروع في الظاهر لكنه في الباطن محرم. ووصفه بأنه ﴿من أموال الناس﴾ لأنه من بيت مال المسلمين، بخلاف الأكل الأول الذي وصفه بأنه ﴿بينكم﴾ أي بين طرفين. ومن هنا يتبين الفرق بين ”الباطل“ وبين ”الإثم“: فالأول محرم ديانة وقضاء، بخلاف الإثم فهو محرم ديانة لكنه قد لا يكون بالضرورة كذلك قضاء نظراً لأن الطرف الآخر (وهو هنا الحاكم) لم يكن يعلم بالضرورة عن بطلان المال الذي قُدّمت من خلاله الخدمة. فالقرآن الكريم لا يكتفي بتشخيص المرض وإنما يتعداه إلى تشخيص تبعات هذا المرض وآثاره الاجتماعية. فلم يكتف بالنص على أكل المال بالباطل، بل ذكر أيضاً محاولة ”تبييض“ هذا الباطل باستخدامه في معاملات قد تكون في نفسها مشروعة. لكن هذا لا يغني صاحبه عن الوقوع في الإثم، فهو مؤاخذ بالأول والآخر. والله أعلم.
31 يناير, 2020 - 05:55 م
في سورة يس يعرض القرآن الكريم موقف الكفار من الدعوة إلى الإنفاق على الضعفة والمساكين: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾. والمقصود من قوله: أنفقوا، أي على من هو عاجز عن الكسب وطلب الرزق، فإن القادر على الكسب لا يستحق الصدقة، كما قال ﷺ: ”ولا حَظّ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب“. ماذا كان رد الذين كفروا على هذه الدعوة؟ قالوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟! لأول وهلة تبدو شبهة قوية، لماذا نطعم نحن هؤلاء؟ لو أراد خالقهم إطعامهم لأطعمهم! ولكن ما حظ هذه الشبهة من النظر؟ لنبدأ بأصحاب الشبهة أنفسهم. هل هم يطبقون هذا المبدأ في حياتهم الخاصة؟ أليس الواحد منهم يطعم أطفاله وأسرته؟ لماذا لا يَكِل أطفاله إلى خالقهم؟ أليسوا هم أيضاً لو شاء الله أطعمهم؟ أم أن هذا المبدأ يطبق في حق البعض دون الآخر؟ هذا التناقض يدل على أن القضية بالنسبة للواحد من هؤلاء ليست قضية مبدأ بل مجرد ذريعة للتنصل من حقوق المجتمع ولتكديس المال. لكن دعنا نغوص قليلاً في الشبهة نفسها. هل فعلاً إن الله تعالى لم يشأ أن يطعم هؤلاء الضعفة والعاجزين؟ من أين عرف الكفار أن الله لم يشأ أن يطعمهم؟ حقيقة الأمر إن الله تعالى قد شاء أن يطعمهم، كوناً وشرعاً. أما المشيئة الكونية فهو قد غرس في الفطرة السليمة الرحمة والرأفة بالأطفال والضعفة والمنكسرين والمساكين. وهذه الرحمة والرأفة تدعونا لمواساتهم بحسب ما نستطيع. القليل من الناس الذين يتبعون أهواءهم هم الذين يحاربون داعي الفطرة وموجب الإنسانية. أما المشيئة الشرعية فقد تواتر عن الرسل كلهم بلا استثناء أن الله تعالى أمر بالعطف والرأفة بالمساكين والمحرومين. وهذا متفق عليه بين الملل كلها. إذن هل حقاً إن الله تعالى لم يشأ أن يطعم هؤلاء المساكين؟ لقد شاء الله ذلك من خلال داعي الفطرة ومن خلال رسالة الرسل التي تأمرنا بذلك. لكنه تعالى أعطى الإنسان الفرصة أن ينفذ هذه المشيئة أو يعارضها ويحاربها. وقد اختار هؤلاء المتكبرون معارضة هذه المشيئة الإلهية ومحاربتها. وبهذا يتبين أن شبهة هؤلاء المتكبرين هي في الحقيقة الدليل على بطلانها وتهافتها. غريب هذا القرآن! إنه يعرض شبهة الخصم بأروع وأدق عبارة لا يستطيعها الخصم نفسه. لكن دقة التعبير هذه هي التي تكشف عوار الشبهة وسبب سقوطها. إنه منهج فريد للقرآن الكريم يمنح القارئ فرصة ثمينة للتأمل والتدبر. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتدبرين لكتبه العاملين بأمره المتبعين لسنة نبيه ﷺ.
31 يناير, 2020 - 05:52 م
وفقاً لصحيفة بلومبيرج بأنها ثقب أسود يبتلع أسواق المال (The Black Hole Engulfing the World Bond Markets). لماذا كانت الفائدة السلبية ”ثقباً أسود“؟ لأنها ببساطة تدمر الادخار ومن ثم النمو طويل الأمد للاقتصاد. ماذا تعني الفائدة السلبية؟ إنها تعني أن صاحب المال (المقرض) مستعد أن يدفع للمقترض لكي يقترض منه. طبعاً هذا السلوك غير متصور في النظرية الكلاسيكية، لكنه حقيقة واقعة تتزايد يوماً بعد يوم. وقد كانت متصورة لدى الفقهاء منذ القدم حينما تناولوا صور المعاوضة على الضمان، ومنها أن أن يشترط المقترض عوضاً مقابل الاقتراض. ولهذا تدخل هذه الصورة في عموم الآية الكريمة: ﴿لا تَظلمون ولا تُظلمون﴾. فالظلم الأول هو باشتراط الزيادة، والثاني باشتراط النقص، وهذا الأخير يشمل ما يسمى اليوم الفائدة السلبية. متى يحتاج المقرض أن يدفع للمقترض؟ عندما يشعر أن مخاطر بقاء المال تحت يده أعلى من بقائها في ذمة المقترض. ولكن الناس اليوم لا يحتفظون بالمال في بيوتهم بل في المصارف. الفائدة السلبية إذن دليل على تخوف المستثمرين من عدم استقرار النظام المصرفي. فلو كان بقاء الأموال لدى المصارف آمناً من وجهة نظر أصحاب الأموال، لما كان هناك أي معنى لكي يدفع صاحب المال مقابل أن تقترض منه الجهة المصدرة للسند. ولكن عندما تصبح الجهة المصدرة أكثر ثقة من المصرف، سيجد المستثمر (خاصة من أصحاب الثروات) أن الأجدى له أن يقرض بفائدة سلبية. جميع سندات الحكومة الألمانية ذات فائدة سلبية لأنها في نظر المستثمرين أوثق بكثير من الأنظمة المصرفية في مناطقهم. وبسبب انتشار الفائدة السلبية، هناك اتجاه حتى لدى المصارف التجارية أن تبدأ في احتساب فائدة سلبية على الودائع. الفائدة السلبية هي الثمن الطبيعي للفائدة الموجبة: فالإفراط في تراكم الديون وتضاعفها هو نتيجة طبيعية للفائدة الموجبة، وهذا التراكم للديون يؤدي بشكل أو بآخر إلى تراكم المخاطر ومن ثم نشؤ الفائدة السلبية. فالمبالغة في تجنب المخاطر من خلال الإقراض بفائدة موجبة يؤول إلى النقيض وهو الإقراض بفائدة سالبة. في كل مرة يُطرح فيها مبدأ المشاركة في تحمل المخاطر، تثور قضية أن المستثمر لا يريد أن يخسر ويريد أن يضمن ماله، و...، وفي كل مرة تطرح قضية ”القرض الحسن“ تثور قضية: كيف يقرض الشخص بدون عائد؟ إلى آخر الاسطوانة المعروفة. حسناً، اليوم المستثمر يخسر بملء اختياره، ويُقرض بعائد سلبي، ولم نسمع شيئاً من تلك الاسطوانة. لو كان النظام المالي قائماً على المشاركة في المخاطر، لما كان هناك فرصة لتراكم الديون وتضاعف المخاطر النظامية كما نشاهد اليوم. المشاركة في المخاطر لا تعني خسارة مضمونة كما هو الحال في الفائدة السلبية، ولهذا فهي تشجع الادخار ولا تدمره كماتفعل الفائدة السلبية. ولو كان القرض الحسن جزءً من النظام المالي لما كان هناك مبرر لتضاعف الديون على النحو الناتج عن الفائدة الموجبة. القرض الحسن يعزز التكافل الاجتماعي الذي يدعم استدامة النمو الاقتصادي، خلافاً للفائدة السلبية. لتكن هذه فرصة لإعادة النظر في أسس النظام المالي العالمي.
31 يناير, 2020 - 05:50 م
علم الاقتصاد قائم على مبدأ الندرة (scarcity). القرض بفائدة، أياً كانت مادة القرض، سواء من النقود أو أي مادة أخرى، يناقض مبدأ الندرة مناقضة تامة. لكي تتضح الصورة، لنأخذ مادة من المواد الطبيعية، الليثيوم مثلاً، وهو المادة التي تُستخدم في بطاريات الأجهزة الذكية والسيارات الكهربائية وغيرها. وفقاً للإحصائيات المتاحة، إجمالي موارد الليثيوم تقريباً ٧٠ مليون طن. ماذا لو قام منتجو الليثيوم بإقراضه بفائدة بدلاً من بيعه؟ لو بدأنا بمائتي ألف طن، يتم إقراضها بفائدة ١٠٪ سنوياً، بحيث يقوم المقترض بسداد القرض والفائدة من الليثيوم، ثم يقوم المقرض بإعادة إقراض رأس المال وفوائده مرة أخرى بفوائد كذلك، وهكذا، فإن مجموع القروض بعد ٦٢ سنة يتجاوز ٧٣ مليون. أي أنه لا بد أن ينفد مخزون الليثيوم خلال مدة محددة طالت أو قَصُرت. والقول نفسه ينطبق على أي مادة أخرى، كالبترول أو الذهب أو الألومنيوم إلخ. القرض بفائدة لا بد أن يؤدي إلى فناء المخزون المتوفر من مادة القرض، أياً كانت هذه المادة، وهذه نتيجة حتمية وليست احتمالية. هذا يوضح لماذا القرض بفائدة يناقض مبدأ الندرة. ما يحصل اليوم عند إقراض النقود بفائدة هو أن الكتلة النقدية يتم توليدها باستمرارها لمحاولة تجنب الكارثة التي ستنتج عن فناء الموارد النقدية. ولكن هذا النمو المستمر للكتلة النقدية يؤدي إلى مجموعة أخرى من الأمراض والعلل الاقتصادية التي تتراكم إلى أن تقع الكارثة. توليد النقد إنما هو محاولة لتأخير النتيجة الحتمية لنظام الفائدة، ولكن هذا التأخير لا يزيد المشكلة إلا استفحالاً، ويضاعف من تكلفة الكارثة حين وقوعها. *** ماذا عن البيع؟ هل البيع يناقض مبدأ الندرة؟ البيع هو مبادلة بين مالين مختلفين، بينما القرض مبادلة للمال نفسه ولكن في أوقات متباينة. هل يمكن أن يؤدي البيع إلى تدمير الموارد كما هو الحال في القرض بفائدة؟ عندما يبيع المنتج الليثيوم بذهب أو بأي مادة أخرى، فإن ثمن الليثيوم يتحدد بالندرة النسبية بين المادتين: الليثيوم والذهب مثلاً. فإذا صار الليثيوم أكثر ندرة من الذهب، ارتفع سعر الليثيوم، أي أصبحت كمية الذهب اللازمة لشراء طن واحد من الليثيوم أعلى من ذي قبل. هذا الارتفاع يوجب ترشيد استعمال الليثيوم أو البحث عن بدائل أخرى. إذن الاختلاف بين البدلين يسمح لقوى السوق لتصحيح العرض والطلب بما يتناسب مع ندرة الموارد. أما القرض بفائدة فهو لا يعترف بقوى العرض والطلب ولا بمبدأ الندرة. الدَّين ينمو مع مرور الزمن ولا يوجد ما يجعل المرابي يتحمل مقتضيات قوى السوق. فلو فرض انخفاض السوق ومن ثم عجز المدين عن سداد الدين في الأجل المحدد، فإن المقرض لا يتحمل أي مسؤولية من وراء ذلك، بل يقوم بجدولة الدين وإعادة تمويله وهكذا. في المقابل نجد قواعد التمويل الإسلامي تُوجب إنظار المعسر وتمنع تأخير الدين بزيادة، لأن هذا هو ربا الجاهلية ”أنظرني أزدك“. بالرغم من الدعاية الكبيرة عن حرية الأسواق وضرورتها لبناء الثروة، فإن هذه الدعاية لا تكشف الحقيقة المرة وهي أن القرض بفائدة لا يحترم قوى السوق ولا يخضع لها. التمويل الإسلامي الذي يحرّم الفائدة يحترم قوى السوق أكثر من النظام القائم على الفائدة.
31 يناير, 2020 - 05:46 م
بعد الحرب العالمية الثانية قامت حكومة روزفلت بتنظيم القطاع المالي على نحو صارم لمنع تكرار أزمة مشابهة للكساد الكبير The Great Depression. من ذلك وضع قيود أو سقف على مقدار الفائدة التي يشترطها المصرف على المقترضين. لماذا؟ إذا كانت الفائدة غير مقيدة بسقف، فهذا يعني أن المصرف يستطيع إقراض أي فئة من المقترضين مع رفع الفائدة بالنسبة للمقترضين منخفضي الملاءة. وحيث إن المصرف مؤسسة ربحية، فإن لديه الحافز للإقراض بأرباح عالية ولكن مقابل مخاطر ائتمانية مرتفعة. ولكن هذا يعني رفع مخاطر المحفظة الائتمانية، ما قد يعرض القطاع المصرفي تحت ضغط المنافسة لمخاطر نظامية تهدد النظام الاقتصادي. بالفعل نجحت هذه القيود في تحقيق الاستقرار المالي لنحو ربع قرن. مع قدوم إدارة ريجان، بدأت موجة تخفيف القيود المالية (financial deregulation) ومعها بدأ النمو غير المنضبط للقطاع المالي. ومنذ ذلك الحين بدأت الاضطرابات المالية التي بلغت ذروتها مع أكبر أزمة مالية في التاريخ في ٢٠٠٨م. التمويل الإسلامي لا يكتفي بمنع الفائدة على القروض، بل هو يوجه التمويل ليكون من خلال المبادلات التجارية كالبيع بأجل والسلم. وهو فوق ذلك يمنع الاسترباح من غرامات التأخير وجدولة الديون التي لا تعدو أن تكون من جنس ربا الجاهلية ”أنظرني أزدك“. هل هذه القيود تقلل من مخاطر المحفظة الائتمانية؟ أم تزيدها؟ أم لا تؤثر فيها؟ إذا كان المصرف لن يربح من غرامات التأخير وجدولة الديون، فهذا يعني أن المصرف سيكون حريصًا على سداد الدَّين في وقته من أجل توظيف المال في عمليات تمويل جديدة، وهكذا. فالتأخير إذا كان لا يدرّ ربحاً على المصرف فمصلحته حينئذ هي السداد في الأجل، وهذا يعني توظيف المال مرة أخرى وتحقيق الربح من عمليات اقتصادية إضافية. ولكن هذا يقتضي من البداية انتقاء العملاء الذين يلتزمون بالسداد في الوقت. ينتج عن ذلك أن مخاطر المحفظة الائتمانية ستنخفض بشكل كبير لأن معايير اختيار العملاء تستوجب استبعاد احتمال التأخير أصلاً. إذن فمنع الاسترباح من التأخير، الذي هو من أظهر صور الربا، يرفع من مستوى الملاءة الائتمانية للمصرف ومن ثم يقلل المخاطر النظامية للقطاع المالي. لكن هناك ميزة أخرى لمنع الربح من التأخير. عندما يحصل المصرف على المال عند الأجل ويوظفه في عمليات جديدة فهذا يعني أن معدل دوران رأس المال (turnover) يرتفع، وهو ما يعني تمويل عمليات تجارية أكثر مقارنة بالقرض بفائدة الذي يسمح بالتأخير ومن ثم يؤدي إلى انخفاض معدل دوران رأس المال. في دراسة ”الاقتصاد الإسلامي في عالم مركب“ (Islamic Economics in a Complex World) بيان الفرق بين النموذجين من خلال المحاكاة على مستوى الوحدة (Agent-based Simulation). ومن خلال هذه الدراسة يتبين أن معدل دوران رأس المال في حالة التمويل الإسلامي (الذي يمنع الربح من التأخير) أربعة أضعاف نظيره في حالة القرض بفائدة. إذن دمج التمويل في التبادل مع منع الاسترباح من تأخير الدين يحقق نتيجتين في آن: تعزيز ملاءة القطاع المالي واستقراره. رفع كفاءة رأس المال في تمويل الاقتصاد الحقيقي. والله أعلم.
31 يناير, 2020 - 05:43 م
بالرغم من ازدهار القطاع المالي الإسلامي في عدد من البلاد الإسلامية، لا تزال هناك فجوة كبيرة لم تجد من يتصدى لها. إنها القرض المجاني أو القرض الحسن. هذا النوع من التمويل فرض كفاية على المجتمع الإسلامي، ومع ذلك لم يقم به من يكفي حتى الآن. فهو فريضة غائبة عن ساحة الاقتصاد الإسلامي اليوم. وقد أجمع العلماء على أن أعمال البر والمعروف، كإطعام الجائع وسقي العطشان وإغاثة الملهوف وفك الأسير ونحوها، فرض كفاية على المسلمين.[1] ومعنى كونها فرضاً على الكفاية أنه إذا قام بها من يكفي من المسلمين سقطت عن الباقين، وإلا أثم الجميع. فهي واجب على المجموع وإن لم تكن فرض عين على كل أحد. ويدل لذلك قوله تعالى: ﴿كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين﴾ وقوله ﴿إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين﴾، حيث أنكر على المشركين عدم تعاونهم على أعمال المعروف والتكافل الاجتماعي، فدل على وجوب التعاون على ذلك، وهذا هو معنى فرض الكفاية، وهو داخل في عموم قوله تعالى: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى﴾. ولا ريب أن القرض المجاني يدخل في أعمال المعروف، بل هو أولى، لأن المقرض يسترد رأسماله، أما في الأعمال الأخرى فالمنفق لا يسترد شيئاً. فيكون وجوبه على الكفاية آكد وأظهر. كما أن التحريم القاطع للربا يستلزم تشوف الشارع وحرصه على القرض المجاني وسائر صور المعروف، وهذا يؤكد وجوبه على الكفاية على أقل تقدير. أهمية القطاع غير الربحي وهذا الوجوب يرجع إلى أهمية القطاع غير الربحي في النشاط الاقتصادي. فالنشاط الاقتصادي يقوم على دعامتين، لا يمكن أن يستغني بإحداهما عن الأخرى: النشاط الربحي، والنشاط غير الربحي، ولا يوجد اقتصاد على وجه الأرض يقتصر على أحدهما. فالدول الرأسمالية تملك الكثير من البرامج والأنشطة، سواء الحكومية أو الخاصة، التي لا تهدف للربح، سواء في مجال التمويل أو التعليم أو الصحة أو غيرها. وقد أدركت هذه الدول هذه الحقيقة خاصة بعد أزمة الكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن الماضي، مما جعلها تتخلى عن الاعتماد شبه الكلي على آلية السوق والنشاط الربحي لإدارة دفة الاقتصاد. أما الدول الاشتراكية فقد اكتشفت بالتجربة أن الاعتماد شبه الكلي على الجانب غير الربحي لا يمكن أن يحقق الازدهار الاقتصادي للبلاد. فالواقع والتاريخ من أقوى الشواهد على أن الاقتصاد لا يمكن أن يقتصر على النشاط الربحي وحده، ولا على النشاط غير الربحي وحده. بل لا بد من الأمرين معاً. وفي حين لا تملك الأنظمة المعاصرة تصوراً واضحاً حول حدود العلاقة بين هذين الجانبين، فإن الاقتصاد الإسلامي يقدم رؤية مفصلة تحدد متى يبدأ النشاط الربحي ومتى ينتهي، ومتى يبدأ النشاط غير الربحي ومتى ينتهي، وهو ما يتمثل في وجوب الزكاة والنفقات وأعمال المعروف، وفي تحريم الربا والميسر وفي سائر الأحكام التفصيلية للمعاملات المالية. ولهذا أجمع العلماء على أن بعض التصرفات المالية لا تقبل المعاوضة، كالقرض والكفالة والضمان وإنظار المعسر. فالمعاوضة على هذه الأعمال، مع كونها تؤدي إما إلى الربا أو إلى الغرر، فهي تنافي مقصد الشرع من إبقاء باب المعروف مُشْرَعاً، والمحافظة على مساحة النشاط غير الربحي واسعة رحبة، ومنع حافز الربح من تجاوز دائرته والاستيلاء على النشاط الاقتصادي بأكمله. ترتيب الأولويات ومع أهمية القطاعين، الربحي وغير الربحي، إلا أن الأولوية في البناء الاقتصادي هي للقطاع غير الربحي. ولذلك جاء الأمر بالزكاة والصدقات والمعروف سابقاً على تحريم الربا بمدة، حيث تأخر النص الصريح بمنعه إلى غزوة أحد في السنة الثالثة للهجرة. أما النصوص الآمرة بالبر والمعروف والإحسان، فكانت تتوالى منذ بدء البعثة. وحكمة تقديم الأمر بالزكاة والمعروف على تحريم الربا تظهر من خلال فهم مشكلة الربا وأسباب وجوده. فالربا ينشأ من جهتين: حاجة المقترض، وشح المقرض. فالحاجة من جهة الطلب، والشح من جهة العرض. فجاءت نصوص الشرع الحكيم بمعالجة الأمرين من خلال الأمر بالزكاة والصدقات والعطف على المسكين واليتيم ونحوها من صور التكافل الاجتماعي. فهذه الأعمال تغني المحتاج أو تخفف من عوزه، وفي الوقت نفسه تربي صاحب المال على السخاء والبذل وتستل جذور الشح والبخل من قلبه. وبذلك تعمل على استئصال الربا من الجهتين. وهذا بطبيعة الحال يأخذ وقتاً ولا يتم بين عشية وضحاها، ولهذا تأخر تحريم الربا الصريح نحواً من عشر سنين. فلما نزلت آية تحريم الربا كانت البيئة النفسية والاجتماعية مهيأة وجاهزة لاستقبال الحكم وامتثاله على أكمل وجه. وهذا يبين تكامل النظام الإسلامي وترابط أجزائه. كما يبين خطأ التركيز على جانب وإهمال الآخر. وهذا هو الحاصل الآن للأسف، حيث يتم التركيز على مؤسسات التمويل الإسلامي الربحية، مع إهمال كبير للمؤسسات غير الربحية، ومن أهمها مؤسسات الزكاة والقرض المجاني. فمحاولة إزالة الربا دون تفعيل مؤسسات التمويل غير الربحي يؤدي إلى خلل جوهري في مسيرة التمويل الإسلامي، على مستوى الفهم والتنظير، وعلى المستوى الممارسة والتطبيق. الوظيفة الاقتصادية للقطاع غير الربحي وليتضح مقدار الخلل الناتج عن إهمال التمويل غير الربحي، دعنا نسأل: ماذا يحدث إذا وجد التمويل الربحي، مثل البيع الآجل ونحوه، قبل معالجة مشكلة الفقر وقبل معالجة التفاوت الفاحش في توزيع الثروة؟ الجواب ليس عسيراً، فالتمويل سيتجه تلقائياً لمحاولة سد الفجوة بين الفقراء والأغنياء، ورغبة الفقراء في اللحاق بالأغنياء. وحيث أن معظم التمويل يتم من خلال المداينات، فإن هذا سيؤدي إلى تحويل قطاع كبير من المجتمع إلى خانة المدينين لأصحاب الأموال. وحيث أن التمويل ربحي وليس مجانياً، فإنه سيزيد من ثروة أصحاب الأموال ويؤدي من ثم إلى زيادة الفجوة في توزيع الثروة بدلاً من تضييقها. وهذا بدوره يستلزم دورة جديدة من التمويل، التي تعمل هي أيضاً على زيادة الفجوة، وهكذا. وبذلك تزداد الفجوة اتساعاً، ويتضاعف مستوى المديونية. وحيث إن معظم التمويل يتجه لأغراض استهلاكية، فإن ارتفاع معدلات المديونية قد تؤدي إلى تراجع النمو والتوظيف. ولكن المشكلة لا تقف عند هذا الحد. فنظراً لأن التمويل الإسلامي بطبيعته لا يسمح بالتوسع في المديونية بل يقيدها دائماً بالنشاط الحقيقي، وحيث إن هذه الدوامة في التمويل الاستهلاكي لا تقبل التوقف عند حد، فإنها ستؤدي إلى محاولة الالتفاف على الضوابط الشرعية للتمويل من أجل الحصول على السيولة وجدولة الديون، لتصبح النتيجة في النهاية لا تختلف عن التمويل الربوي. وهذا ما يؤدي بدوره إلى جعل الحيل والأساليب الصورية في التمويل، التي لا تختلف في جوهرها عن الربا، جزءً أساسياً من الحياة الاقتصادية. وهكذا نجد أن غياب الدور الفاعل لمؤسسات التمويل غير الربحي يؤدي إلى سلسلة من الأخطاء في الاجتهاد وفي التطبيق. فهو يفرغ التمويل الإسلامي من مضمونه، كما يجعل الحيل الربوية تظهر كأنها ضرورة لا يمكن الفكاك منها، مع أنها في واقع الأمر لا تزيد المشكلة إلا سوءً. وأصبح هذا الواقع العليل، مع اتهام الناس بالشح والضن بالمال، سنداً للفتاوى بجواز الحيل أصالة واختياراً، لا استثناء واضطراراً. وهذه الفتاوى بدورها رسخت الانحراف عن أهداف الاقتصاد الإسلامي ومبادئه، لتنشأ دوامة أخرى تعزز دوامة المديونية وتُنظـّر لها. وحقيقة الأمر أن المسلمين يحبون الخير والبذل والعطاء، ويملكون من روح المواساة والتكافل ما لا يوجد عند غيرهم من الأمم، ومن ظن فيهم خلاف ذلك فهو حري بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال هلك الناس فهو أهلكهم". وإنما المشكلة في غياب المؤسسات التي تحول هذه الميول النبيلة من رغبات كامنة إلى واقع قائم ونمط اجتماعي راسخ. فالمؤسسات غير الربحية هي الأساس في بناء الاقتصاد الإسلامي. وإذا اختل الأساس اختل البناء ولا بد، وأصبح التمويل الإسلامي من ثم عاجزاً عن تحقيق أهدافه. وأياً كانت الأسباب التاريخية التي أدت إلى تراجع هذه المؤسسات، فمن الخطأ الاستسلام لهذا الواقع فضلاً عن محاولة التنظير له من خلال تسويغ الحيل الربوية. بل يجب المبادرة لإحياء مؤسسات الزكاة والقرض الحسن وسائر الأنشطة غير الربحية، وتفعيلها ووضعها في المستوى اللائق بها. القرض الحسن والتورق المنظم ووجوب القرض الحسن على الكفاية من أقوى الأدلة على تحريم الحيل الربوية إذا تحولت إلى عمل منظم ومؤسسي. وذلك أن الحيل الربوية وسيلة للاقتراض بربح من خلال الشراء والبيع. وقد أكد الفقهاء منذ القدم على الأثر السلبي لهذه الحيل في سد أبواب المعروف والقرض المجاني خصوصاً. والقرض المجاني قد لا يكون واجباً على كل شخص بعينه، لكنه واجب على المجموع وجوب كفاية، بلا خلاف بين العلماء كما سبق. فإذا تحولت الحيل الربوية من عمل فردي إلى عمل مؤسسي ومنهجي، أصبحت نمطاً اجتماعياً يهدد القرض المجاني على مستوى المجتمع، وتنافي من ثم وجوبه الكفائي، ولهذا تكون محرمة. ومن هنا يتبين حكمة تفريق العلماء رحمة الله عليهم، بين أهل العينة وغيرهم. فكانوا يتسامحون في بعض صور الحيل إذا لم تكن مع أهل العينة، ويمنعونها إذا كانت مع أهل العينة. السبب هو خشية هؤلاء العلماء أن تتحول هذه الحيل من رخص استثنائية تخفف من ضائقة فردية، إلى عمل مؤسسي على مستوى المجتمع يقضي على الوجوب الكفائي للمعروف والبر، ومنه القرض الحسن. ومن هذا الباب يمكن فهم قرارات المجامع الفقهية التي صدرت بشأن التورق، مثل قرارات المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، ثم أخيراً قرار مجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي في 1430هـ. فقد نص قرار المجمع على جواز التورق الفردي وعدم جواز التورق المنظم والتورق العكسي. وكان القرار صريحاً في تعليل تحريم التورق المنظم والعكسي بأن "فيهما تواطؤاً بين الممول والمستورق، صراحة أو ضمناً أو عرفاً، تحايلاً لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة، وهو ربا . "[2] وهذا التواطؤ هو الذي يحول العملية من عمل فردي تلقائي إلى عمل منظم مؤسسي، وهو ما ينافي وجوب القرض الحسن على الكفاية. وقد أكد الفقهاء في مناسبات مختلفة على الفرق بين الواجب بالجزء والواجب بالكل، وبين المحرم بالجزء والمحرم بالكل، فمن الأعمال ما يكون مغتفراً لفرد، لكن لا يجوز أن يتحول إلى نمط اجتماعي سائد. وهذا أصدق ما يكون في حق الحيل. فهي على أحسن أحوالها رخص ومخارج استثنائية، لكن من غير المقبول أن يصبح الاقتصاد الإسلامي في الدول الإسلامية قائماً على هذه الحيل، فهذا تشويه للإسلام وصدٌ عن سبيل الله، فضلاً عن منافاته لأحكام الشريعة الإسلامية الخاصة بهذه التعاملات. القرض المجاني والاستقرار المالي كشفت الأزمة المالية عن الدوري الحيوي الذي يقوم به القرض المجاني، حيث تسابقت البنوك المركزية والحكومات في تقديم قروض بفوائد لا تختلف عملياً عن الصفر. فالقرض المجاني أصبح ضرورة للحفاظ على الاستقرار المالي للمجتمع، وليس مجرد وسيلة للدعم والإعانة للبعض. وهذا يتفق مع موقف الشريعة الإسلامية من كونه فرضاً على الكفاية، فهو أداة ضرورية على مستوى المجتمع، وإن لم تكن كذلك في حق كل فرد بعينه. لكن الخطأ الذي وقعت فيه هذه الأنظمة هو أنها قدمت نسبة كبيرة من هذه القروض المجانية للجهات الأقل حاجة لها، وهي كبرى المؤسسات المالية، والأسوأ من ذلك أنها كانت سبباً في حصول الكارثة ابتداء. فالواجب هو توجيه الدعم والقروض المجانية لضحايا الكارثة، خاصة المؤسسات والأعمال الصغيرة والمتوسطة، الذين يمثلون القطاع الأكبر توظيفاً والأكثر دعماً لعجلة النمو في الاقتصاد، بدلاً من توجيه الدعم للأقلية التي لا تفيد المجتمع ولا تسهم في دعم عجلة النمو. ولكن هذا يحتم على المجتمع بناء مؤسسات وآليات متخصصة في القرض المجاني، ولا يترك الأمر لحين حصول الكوارث والأزمات. حوافز التمويل غير الربحي ونظراً لأهمية التمويل غير الربحي فقد قدمت الشريعة الإسلامية له الحوافز المختلفة، حيث اعتبرت القرض الحسن نوعاً من الصدقة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن السلف يجري مجرى شطر الصدقة"، فهو داخل في وعد النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال من صدقة" وقوله عليه السلام: "المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة". فمن أقرض قرضاً فكأنه تصدق بنصف ما أقرضه. وهذا ما يجعل القرض الحسن مما يمكن أن يعفى من الزكاة. وذلك أن الفقهاء اختلفوا في حكم زكاة الدين المؤجل على الدائن. فالجمهور يرى وجوب الزكاة على الدائن، على خلاف بينهم في التفاصيل. وذهب بعض الصحابة والتابعين، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، إلى عدم وجوب الزكاة في الدين المؤجل على الدائن. ومن الممكن الجمع بين القولين بأن يكون الوجوب في الديون الربحية، أي التي نشأت عن بيع أو معاوضة بربح. أما الديون غير الربحية، كالتي تنشأ عن قرض بدون زيادة، فلا تجب فيها الزكاة . وهذا مع كونه يجمع بين القولين، فهو يناسب مقاصد التشريع وحكمته. فإن من يقرض ماله بلا مقابل فقد تصدق بمنفعة ماله للمقترض مدة الأجل، فناسب ألا تجب عليه الزكاة لئلا يقع الازدواج أو الثني في الزكاة. أما من باع بثمن مؤجل بزيادة فهو لم يتصدق بشئ فتجب عليه الزكاة. ويشهد لذلك أيضاً ما سبق من أن السلف يجري مجرى شطر الصدقة. وهذا يعني أن القرض الحسن يمكن أن يعفى من الزكاة، وهو نوع من الحوافز التي تشجع أصحاب الأموال على إقراضها للمحتاجين. تفعيل القرض الحسن ومن الممكن تفعيل القرض الحسن بأن تكون الجمعيات والهيئات والصناديق الخيرية هي المقترض من أصحاب الأموال، وهي التي تضمن السداد، على أن تقوم هذه الجمعيات باستثمار المال ثم التصدق بريعه أو إقراضه للمحتاجين بعد خصم التكاليف. وهذا يحقق لأصحاب الأموال الاطمئنان بضمان السداد نظراً لتنوع موارد هذه المؤسسات واتساع قاعدتها المالية، ويُغني أصحاب الأموال في الوقت نفسه عن تكاليف المتابعة لكل مقترض على حدة، كما يوفر مورداً للمحتاجين والراغبين في الاقتراض دون الوقوع في الربا أو التحايل عليه. ومن الممكن أيضاً أن تسهم الجهات الحكومية ذات الصلة، مثل وزارة الشؤون الاجتماعية، بتقديم ضمانات لأصحاب الأموال إذا أقرضوا أموالهم للجمعيات الخيرية أو لصندوق مكافحة الفقر، على أن تتصرف هذه الجمعيات في القروض وفق سياسة مالية محددة، تتضمن معايير الإقراض والملاءة المالية للمقترضين ونسب الاحتياط والتوظيف وما إلى ذلك. كما يمكن للبنوك الإسلامية أن تضرب بسهم في ذلك من خلال تقديم تسهيلات قصيرة الأجل مجانية للجمعيات الخيرية وصندوق الفقر بضمان هذه القروض. وبهذا تتضافر جهود المؤسسات العامة والخاصة لإحياء هذه الفريضة الإسلامية، وسد حاجات فئة مهمة وفاعلة في المجتمع، مما يقلل حجم المديونية ويعزز الطلب والتوظيف ومن ثم النمو والرخاء الاقتصادي. والحمد لله رب العالمين. [1] الفروع لابن مفلح 4/307، كشاف القناع للبهوتي 4/347، فقه الزكاة للقرضاوي 2/986. [2] القرار رقم 179 (5/19) بشأن التورق: حقيقته، أنواعه (الفقهي المعروف والمصرفي المنظم)، الدورة التاسعة عشرة، 1430هـ.
19 أكتوبر, 2011 - 11:53 ص
بالرغم من أن الاقتصاد علم يُعنى بالأمور الدنيوية والمالية، إلا أن القرآن الكريم قد استخدم المنطق الاقتصادي والمصطلحات الاقتصادية في أبعد الأمور عن الشؤون الدنيوية، وذلك في مجال الآخرة والجنة والنار والهداية والضلال، كما في قوله تعالى: ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين﴾، وقوله: ﴿أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون﴾، وقوله: ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة﴾، وقوله: ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة﴾، وقوله: ﴿إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور﴾، وقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟ تؤمنون بالله ورسوله﴾ الآيات، وغيرها. وقد ورد في السنة كثير من النصوص بنفس المعنى، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة"، وقوله عليه السلام: "إن من أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه"، وقوله: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته"، وقوله: "أتدرون من المفلس؟" قالوا المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، فقال صلى الله عليه وسلم: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار"، وغيرها. وهذه النصوص من الكثرة والاطراد بما يترجح معه أن هذا الاستعمال ليس على سبيل الاستعارة أو التشبيه، بل هو على سبيل الحقيقة. والمعنى الذي يجمع بين الأمرين هو وجود التعارض بين المصالح المختلفة، مما يستلزم الموازنة والمفاضلة بينها. هذه الموازنة تقتضي في النهاية المبادلة بين المصلحتين المتعارضتين، وهذه المبادلة (trade off ) هي جوهر النظرية الاقتصادية. وإذا كان القرار الرشيد يستلزم الموازنة والمفاضلة بين المصالح المتعارضة، فالمنطق الاقتصادي يحدد عناصر المفاضلة ومعاييرها من أجل الوصول للنتيجة الأكثر رجحاناً. وهذا يبين تأكيد القرآن الكريم على عقلانية القرار الصحيح، بأن يكون على وفق الموازنة السليمة بين المصالح والمفاسد، أو بين المكاسب والخسائر، وليس على وفق الهوى أو التقليد الأعمى. ويلاحظ أن استخدام المنطق الاقتصادي يقتصر على المفاضلة في الحياة الدنيا. أما في الآخرة فلا يوجد ثمة بيع ولا شراء، كما قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة﴾. والسر والله أعلم هو طبيعة الآخرة التي تنتفي فيها القيود التي هي منشأ التعارض بين المصالح ابتداء، وفي هذه الحالة لا يوجد ما يستدعي المبادلة. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن في الجنة سوقاً، لكن ورد بأسانيد ضعيفة أن هذه السوق ليس فيها بيع ولا شراء، بل ما رغبه الواحد من أهل الجنة حصل له فوراً. وهذا يتفق مع سائر النصوص التي تبين انتفاء أي قيود على رغبات أهل الجنة، ومن ثم عدم الحاجة للتبادل أساساً. والحاصل أن القرآن الكريم وظف المنطق الاقتصادي لدعم القرار المتعلق بالموازنة بين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة عند التعارض. وبذلك يكون القرآن قد رفع من شأن المنطق الاقتصادي أكثر بكثير مما تضعه فيه الرأسمالية المعاصرة. فالرأسمالية تحصر المنطق الاقتصادي في الأمور المادية الدنيوية، وتلغي أي اعتبار للقضايا الأخروية أو الأخلاقية، أو تجعلها على أحسن الأحوال تابعة للقضايا الدنيوية. وهذا يجعل دائرة المنطق الاقتصادي ضيقة من جهة، ومادية بحتة من جهة أخرى. أما القرآن فهو يحافظ على جوهر المنطق الاقتصادي السليم، لكنه يوسع نطاقه بما يشمل المصالح الدنيوية والأخروية. فهو بذلك يحترم المنطق الاقتصادي أكثر من الرأسمالية. والحمد لله رب العالمين.
19 أكتوبر, 2011 - 11:52 ص
أصدرت مؤسسة النقد مؤخراً تعميماً على جميع البنوك بضرورة الالتزام بعدم تطبيق رسوم أو عمولات أيًا كانت مسمياتها على حسابات رواتب موظفي الدولة وحسابات مكافآت الطلاب. والتعميم صدر بعد أن فرضت كثير من البنوك، بما فيها البنوك الإسلامية، رسوماً بمسميات مختلفة على حسابات الرواتب والمكافآت، لكون مبالغها صغيرة، ويطلق عليها رسوم الحد الأدنى للرصيد ، وتصل الرسوم إلى ريالين ونصف أو عشرة ريالات، إذا قل الرصيد عن خمسة آلاف ريال، وأحيانا إذا قل الرصيد عن ألف ريال. *** لم تكن مؤسسة النقد بحاجة إلى "فتوى" لتقرر منع هذه الرسوم، فالمسألة أوضح وأبين من ذلك. فهي ظلم بيّن على أصحاب الحسابات المتدنية، وتحيز غير مقبول للحسابات الكبيرة. لكن لماذا لم يأت المنع من المصارف الإسلامية؟ هل يعقل أن تجيز الشريعة الإسلامية هذا الظلم؟ الجواب بالتأكيد هو النفي. فالرسوم على الحسابات الجارية تدخل في الربا الذي نص عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة ... يداً بيد، مثلاً بمثل، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى" متفق عليه. فالحساب الجاري من الناحية الفقهية قرض من العميل للمصرف، وهذا محل اتفاق. والقرض شرعاً من عقود الإرفاق، فإذا وجد في القرض شرط على وجه المعاوضة، لم يعد من باب التبرعات بل أصبح من باب المعاوضات، فينطبق عليه الحديث السابق. والحديث صريح بأن أي زيادة لأي من الطرفين فهي ربا، ولذلك قال عليه السلام: "فمن زاد أو استزاد"، فسواء كانت الزيادة من المقترض أو من المقرض، فهي ربا بنص الحديث. فليست الزيادة المحرمة هي التي يدفعها المقترض، بل أي زيادة على وجه الاشتراط لأي من الطرفين تجعل المعاملة معاوضة نقد بنقد مع التفاضل والتأخير، وهو ربا بالإجماع. أضف إلى ذلك أن الحساب الجاري، لما كان قرضاً من العميل للمصرف، فربحه وخسارته على المصرف عملاً بقاعدة الخراج بالضمان، وهو منطق العدل بين الحقوق والواجبات. لكن تحميل العميل تكاليف الحساب دون أن يكون له شئ من الربح مخالفة صريحة للقاعدة. فإن كان العميل سيتحمل نصيبه من التكاليف فليأخذ نصيبه من الأرباح، أما أن يتحمل الغرم ولا يحصل على الغنم فهو مناف لمنطق العدل. ثم إن المصرف يفرق بين العملاء بحسب مستوى الرصيد. فإذا انخفض عن الحد خصم من الحساب، وإذا زاد أعفي من الخصم. فإن كانت الرسوم بحق فلماذا يعفى منها الرصيد الأعلى؟ السبب واضح وهو مقابل القرض. فالمبلغ الزائد عن الحد قرضٌ حصل مقابله العميل على إعفاء من رسوم الرصيد الأقل من الحد، فهو قرضٌ جرّ نفعاً، وهو فائدة من المصرف للعميل. كما أن اشتراط الحسم مقابل تكلفة الخدمات المصرفية يجعل المعاملة من باب سلف وبيع. فهو سلف من جهة العميل للمصرف وبيع من جهة المصرف للعميل. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن سلف وبيع، وهو عام في كل سلف وبيع اجتمعا على وجه الاشتراط وكان السلف هو المقصود. وهذا هو الحاصل هنا، فإن الحساب الجاري هو الأصل في العلاقة بين العميل والمصرف، والهدف من الرسوم هو أن يودع العميل مبالغ إضافية لتغطي أرباحُها التكاليفَ التي يتحملها المصرف. فالسلف هو المقصود ابتداء وانتهاء، فتكون معاملة منهياً عنها بالنص. إذا كان المصرف فعلاً يرغب في تغطية تكلفة الخدمات الإضافية للعملاء، فيجب أن يسعّر هذه الخدمات ويطبق رسومها على الجميع. فمن يستفيد من الخدمة يدفع مقابلها، ومن لا يستفيد لا يدفع، وهذا هو منطق العدل. وبهذا لا تكون الخدمة مشروطة في السلف لأن العميل من حقه ألا يستخدم هذه الخدمات ولا يخصم منه شئ. وتطبيق الرسوم على الجميع سيجعل التكلفة للحساب الواحد منخفضة جداً، وبذلك تتحقق مصلحة الجميع . ويجب أن يراعى في ذلك أن الخدمات الأساسية للوفاء بالقرض لا تدخل في التكاليف، مثل بطاقة الصراف ودفاتر الشيكات. فهذه الخدمات كما أنها لا تعتبر منفعة من المصرف للعميل مقابل القرض، وإنما هي وسيلة أساسية للوفاء به، فينبغي كذلك ألا تعتبر تكلفة يتحملها العميل أيضاً، سواء بسواء. *** مؤسسة النقد تستحق الشكر على هذا التعميم الذي يوافق حكمة الشريعة الإسلامية، ويمثل ترجمة عملية لمبدأ المسؤولية الاجتماعية. وليست هذه المرة الأولى التي تبادر فيها المؤسسة بذلك، بل سبق أن أصدرت تنظيم قروض الأفراد في أواخر 2005م، بعد أن بلغت مديونية الأفراد حداً لا يمكن الاستمرار فيه، ونتوقع منها المزيد. والمنتظر من المصارف الإسلامية أن تكون سباقة في هذه المجالات، وأن تقدم للمجتمع وللعالم الصورة النموذجية للتمويل الإسلامي الذي يحقق التوازن بين الحقوق الخاصة والعامة، وبين الربحية والمسؤولية الاجتماعية. والحمد لله رب العالمين. المقالات بحوث الكتب الفتاوى الإستشارات bohooth_various الصوتيات مرئيات
19 أكتوبر, 2011 - 11:51 ص
النزعة الاستهلاكية (consumerism ) ظاهرة قديمة قدم المجتمعات البشرية، ويعبر عنها بالترف والإسراف والتبذير. وقد كانت موجودة في المجتمع الجاهلي حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما أشار إليه قوله تعالى حكاية عن بعض رموز الجاهلية: "يقول أهلكتُ مالاً لبداً"، فهو يتفاخر بأنه أهلك المال في أنواع المتع والمظاهر الاجتماعية، وهذا هو الاستهلاك التفاخري (conspicuous consumption ) المبدد للثروة. وقد شدد القرآن في استنكار هذه الظاهرة والتحذير من هذا السلوك في آيات متعددة. ويلاحظ أن معظم هذه الآيات نزلت في العهد المكي، مما يدل على أن علاج هذه المشكلة من القضايا الكلية والأساسية في الاقتصاد الإسلامي، وليس من التفاصيل الجزئية التي تقبل التأجيل إلى العهد المدني. تبديد الثروة أبرز مشكلات الإنفاق التفاخري هو تبديد الثروة وضياع المال ومن ثم تدمير الاقتصاد والمجتمع. وذلك أن المقصود من هذا الإنفاق هو إبراز المنزلة والتفوق الاجتماعي على الآخرين، فإذا أنفق الآخرون أيضاً رجع الوضع النسبي إلى ما كان عليه، لكن بعد خسارة الإنفاق الذي لم يحقق الهدف منه. فالإنفاق التفاخري والمظهري لعبة خاسرة لأن الإنفاق ليس مقصوده إشباع الحاجات الأساسية، وإنما التفوق النسبي، فإذا أنفق الجميع، بقي الوضع النسبي كما هو، لكن مع انخفاض مستوى الثروة وارتفاع المديونية. ويدرك الاقتصاديون الأضرار الكبيرة لهذا السلوك الاجتماعي، ومع التحذيرات المتتكررة لكن تظل النزعة الاستهلاكية غالبة. فما أهم الأسباب وراء هذه الظاهرة؟ البحث عن السعادة منشأ النزعة الاستهلاكية يبدأ من البحث عن السعادة. فالجديد له لذة، وهذه اللذة قد توهم المرء أنها هي السعادة التي ينشدها ويطلبها. ولكن لذة الجديد تتضاءل وتضمحل مع الوقت، فيجد المرء نفسه يبحث مرة أخرى عن السعادة، فيتجه إلى الشراء ثانية، وهكذا. وكلما ازدادت النزعة الاستهلاكية، اشتدت الحاجة للبحث عن السعادة، فيصبح حال المرء كمن يشرب من البحر: لا يزيده الشرب إلا ظمأً. لكن السعادة الحقيقية ليست في الاستهلاك المادي، بل في الإيمان وعمل الخير والبر والإحسان إلى الخلق. فالإيمان يورث من الطمأنينة والرضا ما يغني المرء عن لذة الاستهلاك. وهذا ما يدل عليه ما ورد في الحديث من أن رجلا كان يأكل أكلا كثيراً فأسلم، فكان يأكل قليلا، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن المؤمن يأكل في معيّ واحد، وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاء" متفق عليه. فكلما كان الإنسان أقل إيماناً وأقل شعوراً بالرضا، كلما كان ميله للاستهلاك أكبر بسبب حاجته للسعادة والرضا. ولهذا تبرز ظاهرة الترف والنزعة الاستهلاكية مع ضعف الإيمان وضعف القيم الأخلاقية، وهو ما يلاحظ اليوم بأوضح صورة. الأفق الزمني وبالإضافة لعنصر الرضا فإن الإيمان له أثر بالغ في نظرة الإنسان للمستقبل. فالإيمان باليوم الآخر يجعل الإنسان أبعد نظراً وأقل استعجالاً على الملذات الحاضرة. وفي المقابل فإن قصر النظرة للمستقبل وارتفاع معدل التلهف الزمني يعزز النزعة الاستهلاكية. ويشكو الاقتصاديون اليوم من ارتفاع معدل التلهف الزمني وقصر النظرة المستقبلية بما يغلب القرارات الآنية ويضر بالقرارات الجوهرية بعيدة المدى. وهذه المشكلة تضر كثيراً في مجالات الاستثمار، حيث يصبح هم المرء هو الحصول على الربح السريع في أقصر وقت لكي يلبي الطلب الاستهلاكي الحاضر. وهذا من أهم أسباب نشؤ الفقاعات المالية في أسواق الأسهم وغيرها من الأسواق المالية. وقد برز للعيان مؤخراً حجم الآثار الفادحة التي يمكن أن يخلفها هذا النوع من التفكير. فالاستعجال والتلهف على الحاضر على حساب المستقبل يغذي الاستهلاك المفرط من جهة، كما يضر بالاستثمار من جهة أخرى. التقدم الصناعي في الماضي كانت الأسرة تستهلك في الغالب ما تنتجه بنفسها، من الحبوب والألبان والألبسة وغيرها من احتياجاتها. وما فاض عنها من إنتاجها يمكن لها أن تبيعه لتعزز وضعها الاقتصادي. مع التقدم الصناعي وتطور خطوط الإنتاج وتحقق اقتصاديات الحجم (economies of scale )، أصبح إنتاج هذه السلع محلياً غير مجد، فالمصانع توفرها بتكلفة أقل وجودة أفضل. وبذلك بدأ التحول، قبل نحو 100 عام، نحو النمط الاستهلاكي. فالأسرة اليوم أصبحت مستهلكة لما تنتجه المصانع الكبيرة، ولم تعد كما كانت في الماضي تستهلك ما تنتجه بنفسها في أكثر احتياجاتها. وهذا التطور يفترض أن يكون مفيداً من حيث تلبية كثير من الاحتياجات الأساسية وتوفير العناء والمكابدة التي كانت الأسرة تتحملها في الماضي، ومن ثم يرفع مستوى الإنتاجية في المجالات الأخرى. لكن ما حصل بعد ذلك هو أن هذا الاتجاه نحو الاستهلاك صار يتزايد وينمو على حساب الإنتاجية. وأحد الأسباب وراء ذلك غلبة الجشع المادي وطلب الربح لدى الشركات المنتجة. فصارت تسخر قدراتها لتغذية النزعة الاستهلاكية لتحقق المزيد من المبيعات ومن ثم المزيد من الأرباح. وأصبح السلاح الأمضى أثراً في هذا الاتجاه هو الدعاية والإعلان، التي نجحت في إقناع الجمهور بحاجته للسلع والخدمات التي تنتجها هذه الشركات، حتى لو لم تكن الحاجة قائمة فعلاً. وقد كتب الاقتصادي المعروف جون كينيث جالبيرث (John Kenneth Galbraith ) كتابه: مجتمع الوفرة (Affluent Society ) في منتصف القرن الماضي منتقداً ظاهرة الاندفاع نحو إنتاج السلع الاستهلاكية على حساب الخدمات العامة، وظاهرة تشجيع الاستهلاك المصطنع لدعم الإنتاج ومن ثم الربحية. ولكن بقيت هذه الظاهرة واستمر الكتاب في انتقاد هذه الظاهرة والتحذير منها. لكن في غياب القيم والمبادئ التي تضبط السلوك فسيكون من الصعب تحجيم المشكلة والسيطرة عليها. وقد انتقلت هذه الظاهرة للأسف إلى البلاد الإسلامية، خاصة دول الخليج، وبدأت الأعراض نفسها التي وجدت في الغرب تظهر في مجتمعاتنا. وما لم يتم تدارك الأمر فستكون النتائج غير مشجعة على الإطلاق. التمويل لم تقتصر محاولات التأثير على سلوك المستهلك على الشركات المنتجة للسلع الاستهلاكية، بل تعدته إلى مؤسسات التمويل والمصارف التي ما فتئت تغري الجمهور بالاقتراض أو الاستدانة لتلبية الاحتياجات الكمالية أو المفتعلة. ويكفي متابعة الإعلانات ليدرك المرء حجم التأثير الذي تمارسه البنوك والمؤسسات المالية على تشجيع العملاء على الاستدانة لتمويل الاستهلاك غير المبرر في أكثر الأحيان. النتيجة: الغرق في الديون لسنوات طويلة إلى الأمام. وحسب إحصائيات مؤسسة النقد فقد ارتفعت القروض الاستهلاكية في المملكة من 73 مليار في 2003م إلى 115 مليار في 2004م، ثم إلى 180 مليار في 2005م، وبسبب تدخل مؤسسة النقد أواخر 2005 بقي حجم المديونية في 2006م كما هو تقريباً عند 180 مليار ريال، وارتفع قليلاً في 2007م إلى 182.6 مليار وزاد الطين بلة شيوع الحيل الربوية التي تؤدي وظيفة القرض الربوي نفسها وتوهم المستهلك بسلامة مسلكه، مع كونها تفرغ التمويل الإسلامي من أهم خصائصه، وهو كبح جماح المديونية وربطها بالقيمة المضافة المولدة للثروة. فهناك أدوات للتمويل النقدي، وإذا كنت مديناً، فيمكنك تجديد الدين والحصول على المزيد من التمويل من خلال زيادة حجم المديونية وإطالة مدتها، وهو عين ربا الجاهلية: أنظرني أزدك. ولم يقتصر التحايل على الربا بل امتد ليشمل الميسر، فصارت المتاجر تعلن عن جوائز سحب تصل قيمتها عشرات بل مئات أضعاف قيمة الشراء، فيصبح المقصود من الشراء ليس السلع والخدمات بل الوهم الكاذب في الحصول على الجائزة. فهو في الحقيقة ميسر مغلف بستار الشراء والبيع المشروع، كما أن الحيل الربوية ربا مغلف بستار البيع والشراء المشروع. وهكذا تضافرت القطاعات المختلفة وتكالبت على المستهلك المسكين لتغرقه في الديون ووهم الكسب السريع ولتحطم قدرته الإنتاجية، وقد وَجدَت لديه للأسف من الاستجابة ما يشجعها على المضي قدماً في هذه الدوامة الاستهلاكية. المخرج 1. إن المخرج من هذه الدوامة يجب أن يبدأ من مركز التحكم في السلوك البشري، وهو قلب الإنسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". فمنبع المشكلة كما سبق هو البحث عن السعادة من خلال لذة الاستهلاك. لكن هذه اللذة لا يمكن أن تلبي شوق الإنسان الدفين نحو السعادة والرضا، بل لا يحققها سوى الإيمان والبر والعمل الصالح. ومن الممكن أن يوجه الإنسان همته ووقته نحو الأعمال المفيدة غير المكلفة، وما أكثرها. فالقراءة والكتابة والرياضة وسائر الهوايات والأعمال النافعة المفيدة يمكن أن تحقق قدراً مقبولاً من الرضا والسعادة دون الوقوع في حمى الاستهلاك وتبديد الأموال واستنزاف الثروة. وقد قيل: إن المشغول لا يُنفق، فمن أشغل وقته وذهنه بما هو مفيد انصرف عن الإنفاق والاستهلاك غير المفيد. 2. تنمية قيم الإنتاج والمسؤولية. فالتطور الصناعي الذي سبقت الإشارة إليه حقق الكثير من المنافع للمجتمعات المعاصرة، لكنه في الوقت نفسه كرس روح السلبية والاعتماد على الآخرين، وصار الإنسان أشبه ما يكون عالة على أصحاب العمل بعد أن كان هو سيد نفسه فيما مضى وهو المسؤول عن تحصيل دخله وثروته. وتغيير هذا النمط الاجتماعي يتطلب إحياء قيم الاعتماد على النفس وبناء المشاريع الصغيرة وحسن التخطيط والادخار للمستقبل. ومع التقدم التقني الهائل في مجال الاتصالات والمعلومات، أصبح من السهل على الشخص أن يدير أعماله من منزله وينجح في بناء عمل مدر للدخل بدرجة مقبولة دون تكاليف كبيرة. كل ما يتطلبه الأمر هو الهمة العالية والاعتماد على النفس، مع القدر الضروري من الثقافة المالية والاقتصادية، التي تكاد تكون مغيبة بالكامل للأسف عن مناهجنا العامة. 3. الوقوف بحزم أمام مظاهر الإنفاق والاستهلاك التفاخري القاتل والمدمر للاقتصاد الوطني. وهذا يتطلب تضافر الجهود الرسمية وغير الرسمية في وضع القيود الأخلاقية والتنظيمية أمام الإسراف والمباهاة المذمومة. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام المتباريين. والمتباريان هما اللذان يتنافسان في مظاهر الكرم والإنفاق، فيدعو كل منهما لوليمة أو مناسبة ينفق عليها أكثر من صاحبه. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن حضور طعام الإثنين معاً سداً للباب من أصله. فالواجب على المسؤولين والعلماء والأعيان ورجال المال والأعمال التعاون والتآزر في مكافحة هذه الظاهرة. وسبقت الإشارة إلى تدخل مؤسسة النقد في تقييد حجم القروض الشخصية ومدتها ونسبتها من الراتب، ولولا هذا التدخل لاستمر طوفان الديون في إغراق الأفراد دون رادع. ولذلك يجب على الشركات التجارية والمصارف استشعار مسؤوليتها الاجتماعية في ترشيد الاستهلاك والإنفاق وتوجيه رؤوس الأموال ومصادر التمويل بدرجة أكبر نحو المشاريع الإنتاجية المولدة للقيمة، وتقليص توجيهها نحو المجالات الاستهلاكية قصيرة الأجل. 4. إحياء النشاط غير الربحي وعلى رأسه فريضة الزكاة، الركن الثالث من أركان الإسلام. فالزكاة والقروض المجانية بسبب طبيعتها غير الربحية تُوجه الإنفاق نحو الاحتياجات الأساسية وليس الكمالية أو التَرَفيّة. فكلما كان هذا القطاع أكثر نضجاً كلما قل التوجه نحو الاستهلاك التفاخري والبذخ الاجتماعي. ولبالغ الأسف فإن هذا القطاع خصوصاً يعاني لدينا من تخلف مريع مقارنة مع القطاع الربحي، وهذا نقيض ما جاءت به النصوص الشرعية وأكدت عليه فيما لا يحصى من المناسبات من وجوب التعاون والتراحم والبر والإحسان. 5. ترشيد التمويل الإسلامي بما يحقق مقاصد الشريعة الغراء، والبعد عن الفتاوى الشكلية التي تجعل صورة العقد هي الأساس في الفتوى وتهمل وتعرض عن الحقائق والمعاني والمآلات. ويكفي أن ننظر في الأرقام السابقة لنعلم حجم المديونية الهائلة التي وقع فيها الأفراد، ونسبة كبيرة منها، تتجاوز 50% في السنوات الأخيرة، تصنف ضمن التمويل الإسلامي. ومع ذلك فالنتيجة هي نفسها، بل إن إسلامية الصيغة شجعت الكثير من الأفراد على الاستدانة بعد أن كانوا يمتنعون عن ذلك خشية الوقوع في الربا. كما يكفي أن نعلم أن نسبة كبيرة من تمويل المجازفات في سوق الأسهم التي ضخمت الفقاعة ومهدت للكارثة تمت من خلال أدوات تصطبغ بالصبغة الإسلامية. ولو كانت الفتاوى تنظر للمآل، كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما سبقت الإشارة إليه، لما كانت تسمح أصلاً بمثل هذه الديون الضارة التي لم تجلب للاقتصاد سوى الدمار المادي والمعنوي. والبعض يظن أن كل بيع فهو مشروع لعموم قوله تعالى: "وأحل الله البيع وحرم الربا". وهذا خطأ فادح، لأن البيع هنا يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور". فالبيع المشروع هو البيع المبرور، وهو المفيد النافع. فيخرج بذلك كل ما كان ضاراً لأحد الطرفين (فضلاً عما يضر بهما)، كما هو الحال في الإسراف والتبذير الذي يضر المشتري لمصلحة البائع، فهو وإن حصل بعقود مشروعة في الظاهر، لكنها لما كانت غير مفيدة بل ضارة بالمبذر المسرف، كان حكمها التحريم بالنص والإجماع. وهكذا الحيل الربوية التي لا تحقق أي قيمة مضافة أو منفعة للمدين المحتال، بل هي مجرد وسيلة للحصول على النقد الحاضر مقابل أكثر منه في الذمة. فلا يمكن لعاقل أن يقول إن هذه البيوع تدخل في البيع المبرور المبارك الذي امتدحه النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه. وهكذا القول في الحيل على الميسر من خلال الجوائز التي تغري بالشراء والإنفاق لا لشئ إلا لمجرد وهم الحصول على الجائزة كما سبق. فالاقتصاد الإسلامي لا يتحقق إلا بالأخذ بالشريعة المطهرة كلها، نصها وروحها، أحكامها ومقاصدها. وبدون ذلك فليس هناك أي معنى للقيود الشكلية الفارغة من المضمون، فهي لا تزيد المسلمين إلا زهداً في الشريعة، ولا تزيد غير المسلمين إلا احتقاراً للصورة المشوهة للاقتصاد الإسلامي، كما صرح بذلك الإمام ابن القيم قبل أكثر من 700 سنة، وكما يصرح به أهل الاختصاص اليوم. والحمد لله رب العالمين.
19 أكتوبر, 2011 - 11:50 ص
أعلن الاحتياطي الفيدرالي أنه خفض الفائدة إلى ما بين الصفر والربع في المئة، وتبعه في ذلك بنك إنجلترا المركزي. والهدف هو تخفيض تكلفة الاقتراض على البنوك تشجيعاً لها على إقراض الأفراد والشركات لتعجيل الخروج من حالة الركود الاقتصادي. ومع ذلك فإن المراقبين يشككون في جدوى هذه السياسات، فقد طبقت من قبل في اليابان ولم تنجح في إخراجها من الركود لأكثر من عشر سنوات. وذلك أن مشكلة البنوك هي فقدان الثقة ومن ثم الخوف على أصل القرض من الضياع، ولهذا تمتنع من الإقراض رأساً. فتخفيض الفائدة لا يجدي نفعاً لأن مقدار الفائدة لا يقارن بأصل القرض. الجانب الأسوأ في هذه السياسات هو توجيه معظم الدعم والتمويل لنفس المؤسسات التي كانت من أهم أسباب الأزمة ابتداء، وهي البنوك والمؤسسات المالية. في حين نجد أن ضحايا الكارثة، من الأفراد ومن الشركات المنتجة، يواجهون الكثير من التلكؤ والتباطؤ في الحصول على نصيب ولو محدود من الدعم. إن مشكلة الأنظمة الغربية أنها لم تحترم آلية السوق بما يكفي، بالرغم من كل التصريحات الإعلامية التي توهم خلاف ذلك. فالتقلبات والدورات، صعوداً وهبوطاً، جزء من آلية السوق الطبيعية، ولذا فإن مصادمة هذه الآلية لن تعود إلا بالإخفاق. عندما كانت الأسواق في حالة صعود وازدهار، دأب مناصرو الأسواق على منع أي محاولة لإصدار قوانين أو تشريعات تقيد ممارسات المجازفين، لأن السوق برأيهم أكثر حكمة من رجال التشريع والقانون. ولكن عندما بدت ملامح الكارثة في البروز وتبين أن السوق لم تعد تشبع أحلام مناصريها، أصبح التدخل الحكومي مطلباً ضرورياً لإنقاذ الاقتصاد. أي أن احترام آلية السوق يتحقق فقط حال الصعود، لكنه يختفي ويتبخر حال الهبوط. وهذا الوضع هو الذي وصفه كثير من المحللين بأنه "خصخصة للأرباح وتأميم للخسائر". أي أن الأرباح المتحققة حال الصعود تذهب للمجازفين من القطاع الخاص، أما الخسائر فيتحملها القطاع العام أو الجمهور. إن هذا النظام لا هو رأسمالي حقيقة ولا هو اشتراكي حقيقة، بل هو اشتراكي حال الخسارة ورأسمالي حال الربح، فيكون قد جمع أسوأ ما في النظامين وترك أفضل ما فيهما. إن التقلبات الاقتصادية استجابة طبيعية للتغيرات في النشاط الاقتصادي. فعندما يرتفع مستوى الإنفاق يستجيب الإنتاج بما يرفع مستوى الدخل. ولكن عندما يتم التوسع في الإنفاق من خلال الاقتراض غير المنضبط، فإن ذلك يؤدي إلى تجاوز نمو الطلب لحدود النمو في الدخل، ومن ثم تراكم المديونية بأكثر مما يمكن الوفاء به. ونظراً لأن هذا الوضع غير قابل للاستمرار، فلا بد من تصحيح الخلل، وهو ما يؤدي إلى الهبوط والانكماش. كما أن الأرباح في حالة صعود الأسواق تميل إلى أن تتركز لدى نسبة محدودة من المستثمرين. وكلما استمرت الأسواق في الصعود كلما ازداد تركيز الثروة. ولكن هذا الاتجاه يجفف الثروة من أيدي الجمهور مما يتعذر معه استمرار الطلب الذي يوجه السوق، ومن ثم تتجه الأسواق للهبوط. فالتقلبات الاقتصادية فرصة لتصحيح الاختلالات التي تتراكم أثناء مراحل الصعود، لكي تعود السوق بعد ذلك مجدداً نحو الازدهار. ولذا فإن محاولة تأخير التصحيح أو منعه من الوقوع لا تؤدي إلا إلى استفحال المشكلة، لأنه يسمح بتراكم المزيد من الاختلالات، فيكون التصحيح حينئذ أكثر فداحة وأشد كلفة على الاقتصاد. ولبالغ الأسف فإن سياسة البنوك المركزية في الغرب، خاصة الاحتياطي الفيدرالي، كانت تسير على هذا المنوال لنحو عقدين من الزمان. فالكارثة التي نراها اليوم هي نتيجة لسياسات تأخير التصحيح الذي كان يتطلبه الاقتصاد على مدى سنوات عديدة. فالأنظمة التي تزعم أنها تحترم الأسواق لم تكن في حقيقة الأمر تحترمها بما يكفي لتجعلها تصحح نفسها بنفسها، بل بقيت تحفز الأسواق بضخ كميات هائلة من النقد، حتى أصبح الاقتصاد أشبه ما يكون بعدّاء يُصرّ مُدربه على أن يستمر في الجري دون توقف، ولذلك بقي يجرعه من المنشطات والمنبهات حتى أصيب بالانهيار. قد تكون الأسواق أكثر حكمة من رجال التشريع والقانون، لكنها ليست أكثر حكمة من الذي أبدعها وأوجد نظامها الذي تسير عليه، وهو الخالق العليم تبارك وتعالى. فالتشريع الإلهي هو القانون الذي يسمح بالاستفادة من أفضل ما تقدمه السوق وتجنب أسوأ ما فيها. والتشريع الإسلامي لا يقتصر على تحريم الربا والميسر وأكل المال بالباطل، بل هو قبل ذلك يوجب الزكاة والنفقات وإنظار المعسر ويؤكد على سائر وجوه البر والإحسان. فهو نظام يحقق التوازن بين القطاع الربحي الذي تمثله السوق، وبين القطاع غير الربحي الذي تمثله الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية والتنموية. هذا التوازن يسمح باحتواء الآثار السلبية للسوق دون تشويه آلية عملها أو منعها من تصحيح الاختلالات التي تعتور النشاط الاقتصادي. فالنشاط غير الربحي يرشد الإنفاق من خلال توجيهه نحو القطاعات الأكثر احتياجاً في المجتمع. هذا الترشيد من شأنه أن يحد من الإفراط في توسع الأسواق، ومن ثم يقلل فرص الهبوط والانكماش. كما أن النشاط غير الربحي يعمل على إعادة توزيع الثروة الذي يحد من تركزها لدى فئة قليلة، ومن ثم يسمح باستمرار النمو الاقتصادي. والأزمة المالية التي نعيشها اليوم نشأت بسبب استفحال المديونية من خلال أدوات الربا المختلفة، وبسبب استفحال المجازفة من خلال أدوات الميسر المعقدة. هذا الاستفحال جعل السوق تتحول إلى فقاعة كان لا بد أن تنفجر في النهاية. فالكارثة جاءت لتصحيح الاختلالات الكبيرة التي تراكمت في مرحلة الصعود، وعليه فمحاولة منع هذا التصحيح لا تنتهي إلى الإخفاق فحسب، بل إنها تضر الاقتصاد أكثر مما تنفعه. إن المخرج من هذه الأزمة ليس بضخ المزيد من المنشطات والمنبهات في جسد السوق الذي انهار من إفراطه في الجري وراء الأرباح، ولكن بالتوجه نحو القطاع المكمل له وهو القطاع غير الربحي. قديماً قال الفيزيائي المشهور آينشتاين: "لا يمكن حل مشكلة على نفس المستوى الذي نشأت فيه". وإذا كانت المشكلة نشأت في القطاع الربحي تصحيحاً للاختلالات التي تراكمت فيه عبر السنوات، فالعلاج يجب أن يكون على مستوى أعلى من مستوى السوق، ألا وهو القطاع غير الربحي، وذلك من خلال صور المواساة المختلفة التي تجسد أنبل ما في الطبيعة البشرية. فالتكافل والمواساة هو أفضل السبل لمواجهة الأزمات الاقتصادية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية. فهم مني وأنا منهم"، متفق عليه. وفي دراسة حديثة أجراها الاقتصادي روبرت شابيرو (Robert Shapiro ) حول القيمة التي تضيفها مؤسسات الأوقاف الاجتماعية (community foundations ) في الولايات المتحدة، وجد أن كل دولار تنفقه هذه المؤسسات يولد أكثر من ثمانية دولارات من العائد المباشر في المجال الاقتصادي والاجتماعي. وتبعاً لذلك فإن الضرائب التي تجنيها الحكومة الأمريكية من هذه العوائد يتجاوز حجم الإعفاءات الضريبية التي تمنحها لهذه المؤسسات ابتداء. والقطاع غير الربحي يتمتع بقدر عال من الكفاءة لأنه قائم على الحوافز والمبادرات الذاتية مع مرونة كبيرة ولامركزية تفتقر إليها أجهزة القطاع العام. وإذا كان كذلك فالواجب هو توجيه الدعم لهذا القطاع، وليس للمؤسسات التي كانت هي السبب في الكارثة ابتداء. إن تخفيض فائدة البنك المركزي إلى الصفر يعني أن القرض أصبح مجانياً، ومن ثم أداة غير ربحية للتمويل. فمن غير المقبول حينئذ توجيه هذا القرض المجاني إلى مؤسسات ربحية لأن هذا سوء توظيف للموارد. ففي حالة الهبوط الاقتصادي تنخفض فرص الربحية بشكل كبير، ولهذا تتباطأ قنوات التمويل الربحي أو تكاد تتوقف تماماً. وفي غياب فرص الربح فلا نتوقع الكثير من توجيه الدعم لهذا القطاع. وحينئذ فالقروض المجانية والدعم الحكومي يجب أن يوجه لمؤسسات التمويل غير الربحي وللمؤسسات التنموية والاجتماعية التي توجه هذه الأموال نحو القطاعات الأكثر حاجة وليس الأكثر ربحية. هذه المؤسسات بدورها تستطيع احتواء التداعيات السلبية للهبوط الاقتصادي، إلى أن تكتمل مرحلة التصحيح وتعود السوق للنهوض مرة أخرى. إن التركيز المفرط للأنظمة الغربية على السوق، والسوق وحدها، ينافي طبيعة السوق نفسها ويؤخر الخروج من الكارثة. إن الاقتصاد الإسلامي، من خلال التأكيد على التكامل بين القطاعين الربحي وغير الربحي، يقدم رؤية متوازنة يمكن أن تعجل بالخروج من الأزمة وتنجح في استيعاب آثارها السلبية بكفاءة دون إخلال بآلية السوق أو مصادمة لطبيعة عملها. والحمد لله رب العالمين.
19 أكتوبر, 2011 - 11:49 ص
لا تزال تداعيات الأزمة العالمية تتطور وتتوالى، ويمتد أثرها على الاقتصاد الحقيقي بعد الآثار الكارثية التي خلفتها على القطاع المالي. إن الأزمة التي نعيشها اليوم نشأت -باتفاق المحللين- من الإفراط في الالتزامات والمديونيات مقابل الأصول الحقيقية، وهو ما يطلق عليه الرفع الائتماني (leveraging ). والانهيار الحاصل الآن هو تخفيض لهذه الالتزامات (deleveraging ) لتتوافق مع القاعدة الرأسمالية للمؤسسات المالية. إن آليات التمويل السائدة اليوم تسمح بنمو المديونية بمعدلات عالية تفوق بكثير معدلات نمو الثروة والأصول الحقيقية. ونتيجة لذلك يختل البناء الاقتصادي، حيث تقوم جبال شاهقة من الديون والالتزامات على قاعدة محدودة من الثروة الحقيقية، وهذا ما يسمى الهرم المقلوب. هذا البناء غير قابل للاستمرار لأن القاعدة الضئيلة لا يمكنها أن تحتمل العبء المتزايد من أهرامات الديون الهائلة. ولذلك لا مفر من انهيار هذه الأهرامات والعودة إلى الوضع الطبيعي الذي تكون فيه قاعدة الثروة أكبر من عبء المديونية. ولكن مع الآليات السائدة ستعود المديونية إلى النمو بأسرع من الثروة، ليتكرر الخلل، ويعود الانهيار مرة أخرى، وهكذا. إن هذا النظام، بهذا الشكل، يمثل عبئاً كبيراً على المجتمعات الإنسانية، وتتزايد تكلفة بقائه باطراد. فإذا أردنا بناء نظام اقتصادي مستقر وقابل للاستمرار والنمو، فيجب معالجة العلاقة بين المديونية والثروة معالجة جذرية لضمان تجنب هذه الكوارث مستقبلاً. لقد دعا رئيس الجمهورية الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى "نظام مالي عالمي جديد". كما دعا رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون إلى بناء أنظمة "للإنذار المبكر" ضد الكوارث المالية. فما الذي يمكن أن يضيفه الاقتصاد الإسلامي في هذا الخصوص؟ إن الكارثة المالية تحصل نتيجة لاختلال علاقة المديونية بالثروة. فإذا أردنا التوقي من وقوع الكارثة، فعلينا بناء مؤشرات لنمو المديونية تحدد ما إذا كانت المديونية تنمو بشكل طبيعي يخدم بناء الثروة، أو أنها تسير بالاتجاه الذي يقود نحو الكارثة. فإذا كان نمو المديونية لا يقابله نموٌ موازٍ في الثروة، فهذا بمثابة ناقوس للخطر، لأن هذا النمو إذا استمر، سيؤدي إلى تفاقم الديون على حساب الثروة، ومن ثم الانهيار. ولكن ما هو هذا الدَّين الذي ليس له مقابل من الثروة؟ إنه لا يعدو أن يكون الربا باصطلاح الفقه الإسلامي. فالعلماء عرفوا الربا بأنه "زيادة لا يقابلها عوض." [1] وهذا الفهم الدقيق للربا يبين كيف يكون الربا مصدر خطر على النظام الاقتصادي. فنشوء دين في الذمة ليس له مقابل من الإنتاج والقيمة المضافة يعني إمكانية نمو الدين بمعدلات تتجاوز معدلات نمو الثروة، وهو ما ينتهي إلى اختلال البناء الاقتصادي، مما يهدد استقرار النظام، كما سبق. إن هذه الحكمة نص عليها القرآن بجلاء في أول آية نزلت بالتحريم الصريح للربا: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾ (آل عمران 130). والأضعاف المذكورة في الآية الكريمة منسوبة إلى أصل الدَين الذي له ما يقابله من الثروة. فالربا يؤدي إلى أن يتضاعف الدَينُ بأضعاف الثروة الحقيقية للمجتمع، وهو الخطر الذي يهدد الاقتصاد وينذر بالكارثة. فإذا أردنا تجنب الكوارث المالية وبناء نظام اقتصادي يجمع بين الاستقرار والإنتاجية، فإن من أوائل المؤشرات التي تحمي هذا النظام هو اجتناب الربا. إنظار المعسر إن تحريم الربا هو أحد ركائز الاقتصاد الإسلامي، لكنه ليس الركيزة الوحيدة. لقد قرن القرآن الكريم في سورة البقرة بين تحريم الربا وبين أمر آخر في غاية الأهمية، ألا وهو إنظار المعسر، كما قال تعالى: ﴿وإن كان ذو عُسرة فَنََظِرةٌ إلى مَيْسَرة﴾ (البقرة 280). وإنظار المعسر، بإجماع العلماء، فريضة واجبة، وليس أمراً مستحباً يجوز تركه أو التغاضي عنه. إن أهمية هذا المبدأ لا تقتصر على القيمة الأخلاقية والإنسانية التي يجسدها، بل هو، بالإضافة إلى ذلك، يؤدي وظيفة اقتصادية في غاية الأهمية، ربما لم تكن أكثر وضوحاً قبل الأزمة التي نعيشها اليوم. فالأزمة كما نعلم بدأت مع تعثر المقترضين من ذوي الملاءة المنخفضة. هذا التعثر أدى إلى تراجع في تمويل القروض العقارية، ومن ثم في تراجع أسعار العقار، مما فاقم من مشكلة التعثر، وأدى إلى سلسلة من الإخفاقات في المؤسسات المالية والمصرفية، ثم انتقلت العدوى إلى بقية دول العالم. فإذا كان الانهيار ابتدأ من تعثر السداد، فإن من أهم عوامل تطويق الأزمة ومحاصرة تداعياتها هو إمهال المدينين غير القادرين على السداد. والفقه الإسلامي لا يمنع من بيع مال المدين الذي عجز عن السداد، لكن الفقهاء متفقون على استثناء ما لا يَستغني عنه المدين، ومن ذلك المسكن. لكن العجب لا ينقضي من عظمة الفقه الإسلامي، حين نجد أن ثلة من كبار الفقهاء نصوا على أن المعسِر "لا تباع دارُه التي لا غِنى له عن سُكناها".[2] والعلماء الذين أجازوا بيع دار المعسر نصوا على أنها " تُباع ويُكترى له بَدلُها".[3] فأئمة الفقه الإسلامي متفقون على ضرورة ضمان السكن للمدين، وأن عجزه عن السداد لا يحرمه هذا الحق، ولذلك فهو يدخل في وصف المعسر الذي يستحق الإنظار. وإذا كان المدين الذي ثبت عجزه عن السداد لا يباع مسكنه الذي لا يَستغني عنه، فإن إنظارَه في هذه الحالة من شأنه أن يطوق تداعيات الانهيار الذي نشهده اليوم، لأنه يحفظ أسعار العقار من الهبوط أو على الأقل يقلل من سرعة انخفاضها. وهذا يحقق مصلحة الدائن والمدين معاً: فالمدين ينتفع بالإمهال، في حين يحتفظ الدائن بقيمة أصوله متماسكة، مما يقلل احتمالات الإفلاس والانهيار. وإنظار المعسر يمتد أثره الاقتصادي إلى أبعد من ذلك. فإن الدائن إذا علم مسبقاً أنه لن يستطيع الاسترباحَ من المعسر أو بيعَ ماله الذي لا يَستغني عنه، فإنه سيكون أكثر حذراً في منح الائتمان والتمويل ابتداءً. والأزمة التي نمر بها الآن نشأت كما نعلم من التساهل في إقراض ذوي الملاءة المنخفضة ممن هم مظنّة الإعسار أكثر من غيرهم. فتطبيق مبدأ إنظار المعسر كان يمكن أن يحول دون التوسع في إقراض هذه الفئة، ويُقلّل مِن ثَمّ احتمالات الانهيار من البداية. التقلبات الاقتصادية إن حكمة القرآن الكريم في الجمع بين تحريم الربا وبين إنظار المعسر في سياق واحد يتجلى جانبٌ منها في ضوء التقلبات الاقتصادية التي نشهد اليوم واحدة من أبرز صورها. فالدورات الاقتصادية تمر إجمالاً بمرحلتين: مرحلة الصعود والنمو، ومرحلة الهبوط والانكماش. ومن أهم عوامل الكارثة المالية هو الصعود غير المنضبط الذي يصاحبه الإفراط في تسهيل الائتمان، مما يؤدي إلى مبالغة في قيم الأصول. هذا بدوره يشجع على الاستدانة برهن هذه الأصول، مما يزيد من ارتفاع أسعارها ومن ثم الاسترسال في تسهيل الائتمان، وهكذا، لتصبح السوق في حالة فقاعة (bubble ) غير قابلة للاستمرار. فإذا وُجد أي سبب يؤدي إلى تراجع قيم الأصول، اضطر المدينون إلى بيع بعض هذه الأصول لزيادة قيمة الرهن. ولكن بيع الأصول من شأنه أن يخفض من أسعارها مرة أخرى، مما يتطلب المزيد من البيع لتغطية قيمة الرهن، وهكذا حتى تنهار السوق وتتحقق الكارثة. وتحريم الربا من شأنه أن يضبط التوسع في الائتمان بحيث لا تتحول السوق في مرحلة الصعود إلى حالة الفقاعة التي تهدد الاقتصاد. أما في حالة الهبوط فإن إنظار المعسر من شأنه أن يقلل من معدل تراجع أسعار الأصول ومن ثم يجنب السوق الانزلاق إلى حالة الانهيار. فالجمع بين هذين المبدأين من شأنه أن يحتوي تقلبات الأسواق ويسيطر على عوامل الانهيار، دون أن يمنع السوق من أداء وظائفها الأساسية. فالاقتصاد الإسلامي لا يزعم أنه قادر على استئصال التقلبات الاقتصادية، لكن مبادئه قادرة إذا طبيقت على نحو صحيح، أن تمنع هذه التقلبات أن تتحول إلى كوارث تدمر حياة البشرية وثرواتها. رسالة الإسلام إن تحريم الربا ووجوب إنظار المعسر لم تنفرد بهما الشريعة الإسلامية، ولم يكن محمد، صلى الله عليه وسلم، أول من دعا إليهما. بل هما من المبادئ التي دعا إليها جميع الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وأجمعت عليها الأديان السماوية والرسالات الإلهية على مر التاريخ الإنساني. فهي قيم كلية مشتركة بين الإنسانية، لا تختص بها مجتمعات دون أخرى، ولا أديان دون غيرها. ولذا فإن قادة العالم وحكماءه مدعوون لاستلهام هذه القيم واعتمادها في أنظمتهم التشريعية والمالية إذا كان العالم حريصاً على تجنب مثل هذه الكوارث مستقبلاً، وهذ هو ما تدعو إليه مبادئ الاقتصاد الإسلامي. [1] أحكام القرآن لابن العربي 1/242. [2] المغني لموفق الدين ابن قدامة، 4/490، مكتبة الرياض. وهذا هو مذهب أبي حنيفة وأحمد. [3] المصدر السابق ص491، وهذا هو مذهب مالك والشافعي. ومع ذلك صرح الشافعي بأن "يُتأنّى في بيع المساكن بقدر ما يرى أهل البصر أنها بلغت أثمانها أو قاربتها"، الأم 3/210.
19 أكتوبر, 2011 - 11:48 ص
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغُر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. بلغ مجموع خسائر المصارف والمؤسسات المالية بسبب أزمة الائتمان العالمية أكثر من تريليون و400 مليار دولار بنهاية سبتمبر 2008م.[1] أما أسواق رأس المال العالمية، فقد خسرت منذ مطلع هذا العام إلى نهاية سبتمبر نحو 30% من قيمتها، أو أكثر من 18 تريليون دولار،[2] ولا تزال تداعيات الأزمة وآثارها لم تكتمل فصولها بعد. الربا إن الأزمة التي نعيشها اليوم نشأت -باتفاق المحللين- من الإفراط في الالتزامات والمديونيات مقابل الأصول الحقيقية، وهو ما يطلق عليه الرفع الائتماني (leveraging ). والانهيار الحاصل الآن هو تخفيض لهذه الالتزامات (deleveraging ) لتتوافق مع القاعدة الرأسمالية للمؤسسات المالية. إن آليات التمويل السائدة اليوم تسمح بنمو المديونية بمعدلات عالية تفوق بكثير معدلات نمو الثروة والأصول الحقيقية. ونتيجة لذلك يختل البناء الاقتصادي، حيث تقوم جبال شاهقة من الديون والالتزامات على قاعدة محدودة من الثروة الحقيقية، وهذا ما يسمى الهرم المقلوب. هذا البناء غير قابل للاستمرار لأن القاعدة الضئيلة لا يمكنها أن تحتمل العبء المتزايد من أهرامات الديون الهائلة. ولذلك لا مفر من انهيار هذه الأهرامات والعودة إلى الوضع الطبيعي الذي تكون فيه قاعدة الثروة أكبر من عبء المديونية. ولكن مع الآليات السائدة ستعود المديونية إلى النمو بأسرع من الثروة، ليتكرر الخلل، ويعود الانهيار مرة أخرى، وهكذا. إن هذا النظام، بهذا الشكل، يمثل عبئاً كبيراً على المجتمعات الإنسانية، وتتزايد تكلفة بقائه باطراد. فإذا أردنا بناء نظام اقتصادي مستقر وقابل للاستمرار والنمو، فيجب معالجة العلاقة بين المديونية والثروة معالجة جذرية لضمان تجنب هذه الكوارث مستقبلاً. لقد دعا رئيس الجمهورية الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى "نظام مالي عالمي جديد".[3] كما دعا رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون إلى بناء نظام "للإنذار المبكر" ضد الكوارث المالية.[4] فما الذي يمكن أن يضيفه الاقتصاد الإسلامي في هذا الخصوص؟ إن الكارثة المالية تحصل نتيجة لاختلال علاقة المديونية بالثروة. فإذا أردنا التوقي من وقوع الكارثة، فعلينا بناء مؤشرات لنمو المديونية تحدد ما إذا كانت المديونية تنمو بشكل طبيعي يخدم بناء الثروة، أو أنها تسير بالاتجاه الذي يقود نحو الكارثة. أحد أهم هذه المؤشرات هو مدى التلازم بين نمو المديونية وبين نمو الثروة. فإذا كان نمو المديونية لا يقابله نموٌ موازٍ في الثروة، فهذا بمثابة ناقوس للخطر، لأن هذا النمو إذا استمر، سيؤدي إلى تفاقم الديون على حساب الثروة، ومن ثم الانهيار. ولكن ما هو هذا الدَّين الذي ليس له مقابل من الثروة؟ إنه لا يعدو أن يكون الربا باصطلاح الفقه الإسلامي. فالعلماء عرفوا الربا بأنه زيادة لا يقابلها عوض.[5] وهذا الفهم الدقيق للربا يبين كيف يكون الربا مصدر خطر على النظام الاقتصادي. فنشوء دين في الذمة ليس له مقابل من الإنتاج والقيمة المضافة يعني إمكانية نمو الدين بمعدلات تتجاوز معدلات نمو الثروة، وهو ما ينتهي إلى اختلال البناء الاقتصادي، مما يهدد استقرار النظام، كما ذكرنا آنفاً. إن هذه الحكمة نص عليها القرآن بجلاء في أول آية نزلت بالتحريم الصريح للربا: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾ (آل عمران 130). والأضعاف المذكورة في الآية الكريمة منسوبة إلى أصل الدَين الذي له ما يقابله من الثروة. فالربا يؤدي إلى أن يتضاعف الدَينُ بأضعاف الثروة الحقيقية للمجتمع، وهو الخطر الذي يهدد الاقتصاد وينذر بالكارثة. فإذا أردنا تجنب الكوارث المالية وبناء نظام اقتصادي يجمع بين الاستقرار والإنتاجية، فإن من أوائل المؤشرات التي تحمي هذا النظام هو اجتناب الربا. إنظار المعسر إن تحريم الربا هو أحد ركائز الاقتصاد الإسلامي، لكنه ليس الركيزة الوحيدة. لقد قرن القرآن الكريم في سورة البقرة بين تحريم الربا وبين أمر آخر في غاية الأهمية، ألا وهو إنظار المعسر، كما قال تعالى: ﴿وإن كان ذو عُسرة فَنََظِرةٌ إلى مَيْسَرة﴾ (البقرة 280). وإنظار المعسر، بإجماع العلماء، فريضة واجبة، وليس أمراً مستحباً يجوز تركه أو التغاضي عنه. إن أهمية هذا المبدأ لا تقتصر على القيمة الأخلاقية والإنسانية التي يجسدها، بل هو، بالإضافة إلى ذلك، يؤدي وظيفة اقتصادية في غاية الأهمية، ربما لم تكن أكثر وضوحاً قبل الأزمة التي نعيشها اليوم. فالأزمة كما نعلم بدأت مع تعثر المقترضين من ذوي الملاءة المنخفضة. هذا التعثر أدى إلى تراجع في تمويل القروض العقارية، ومن ثم في تراجع أسعار العقار، مما فاقم من مشكلة التعثر، وأدى إلى سلسلة من الإخفاقات في المؤسسات المالية والمصرفية، ثم انتقلت العدوى إلى بقية دول العالم. فإذا كان الانهيار ابتدأ من تعثر السداد، فإن من أهم عوامل تطويق الأزمة ومحاصرة تداعياتها هو إمهال المدينين غير القادرين على السداد. والفقه الإسلامي لا يمنع من بيع مال المدين الذي عجز عن السداد، لكن الفقهاء متفقون على استثناء ما لا يَستغني عنه المدين، ومن ذلك المسكن. وإني لأدعو الإخوة إلى تأمل عظمة الفقه الإسلامي حين نص ثلة من كبار الفقهاء على أن المعسِر "لا تباع دارُه التي لا غِنى له عن سُكناها".[6] والعلماء الذين أجازوا بيع دار المعسر نصوا على أنها " تُباع ويُكترى له بَدلُها".[7] فأئمة الفقه الإسلامي متفقون على ضرورة ضمان السكن للمدين، وأن عجزه عن السداد لا يحرمه هذا الحق، ولذلك فهو يدخل في وصف المعسر الذي يستحق الإنظار. وإذا كان المدين الذي ثبت عجزه عن السداد لا يباع مسكنه الذي لا يَستغني عنه، فإن إنظارَه في هذه الحالة من شأنه أن يطوق تداعيات الانهيار الذي نشهده اليوم، لأنه يحفظ أسعار العقار من الهبوط أو على الأقل يقلل من سرعة انخفاضها. وهذا يحقق مصلحة الدائن والمدين معاً: فالمدين ينتفع بالإمهال، في حين يحتفظ الدائن بقيمة أصوله متماسكة، مما يقلل احتمالات الإفلاس والانهيار. وإنظار المعسر يمتد أثره الاقتصادي إلى أبعد من ذلك. فإن الدائن إذا علم مسبقاً أنه لن يستطيع الاسترباحَ من المعسر أو بيعَ ماله الذي لا يَستغني عنه، فإنه سيكون أكثر حذراً في منح الائتمان والتمويل ابتداءً. والأزمة التي نمر بها الآن نشأت كما نعلم من التساهل في إقراض ذوي الملاءة المنخفضة ممن هم مظنّة الإعسار أكثر من غيرهم. فتطبيق مبدأ إنظار المعسر كان يمكن أن يحول دون التوسع في إقراض هذه الفئة، ويُقلّل مِن ثَمّ احتمالات الانهيار من البداية. إن حكمة القرآن الكريم في الجمع بين تحريم الربا وبين إنظار المعسر في سياق واحد يتجلى جانبٌ منها في ضوء التقلبات الاقتصادية التي نشهد اليوم واحدة من أبرز صورها. فالدورات الاقتصادية تمر إجمالاً بمرحلتين: مرحلة الصعود والنمو، ومرحلة الهبوط والانكماش. ومن أهم عوامل الكارثة المالية هو الصعود غير المنضبط الذي يصاحبه الإفراط في تسهيل الائتمان، مما يؤدي إلى مبالغة في قيم الأصول. هذا بدوره يشجع على الاستدانة برهن هذه الأصول، مما يزيد من ارتفاع أسعارها ومن ثم الاسترسال في تسهيل الائتمان، وهكذا، لتصبح السوق في حالة فقاعة (bubble ) غير قابلة للاستمرار. فإذا وُجد أي سبب يؤدي إلى تراجع قيم الأصول، اضطر المدينون إلى بيع بعض هذه الأصول لزيادة قيمة الرهن. ولكن بيع الأصول من شأنه أن يخفض من أسعارها مرة أخرى، مما يتطلب المزيد من البيع لتغطية قيمة الرهن، وهكذا حتى تنهار السوق وتتحقق الكارثة. وتحريم الربا من شأنه أن يضبط التوسع في الائتمان بحيث لا تتحول السوق في مرحلة الصعود إلى حالة الفقاعة التي تهدد الاقتصاد. أما في حالة الهبوط فإن إنظار المعسر من شأنه أن يقلل من معدل تراجع أسعار الأصول ومن ثم يجنب السوق الانزلاق إلى حالة الانهيار. فالجمع بين هذين المبدأين من شأنه أن يحتوي تقلبات الأسواق ويسيطر على عوامل الانهيار، دون أن يمنع السوق من أداء وظائفها الأساسية. إن تحريم الربا ووجوب إنظار المعسر لم تنفرد بهما الشريعة الإسلامية، ولم يكن محمد، صلى الله عليه وسلم، أول من دعا إليهما. بل هما من المبادئ التي دعا إليها جميع الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وأجمعت عليها الأديان السماوية والرسالات الإلهية على مر التاريخ الإنساني. فهي قيم كلية مشتركة بين الإنسانية، لا تختص بها مجتمعات دون أخرى، ولا أديان دون غيرها. السنن الكونية إن السنن الكونية لا تحابي أحداً، ولا تجامل طائفة دون أخرى: ﴿ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب مَن يَعمل سوءً يُجزَ به﴾ (النساء 123). فليس مجرد انتسابنا للإسلام يعصمنا من التعرض للكوارث والنكبات. بل لا بد أن تكون أعمالنا ومنتجاتنا ومؤسساتنا قائمة على أسس متينة راسخة تحقق الاستقرار المنشود. واستقرار الصناعة المالية الإسلامية يتطلب أن تكون الأدوات والمنتجات التي تُقدمها تجمع بين سلامة الصيغة وبين صحة الهدف والمآل، وليس سلامة الصيغة فحسب. إذا كانت المنتجات التي نُقدمها ستؤدي إلى اختلال نسبة المديونية إلى الثروة، لتؤدي من ثم إلى الهرم المقلوب الذي تتميز به الرأسمالية، فلن نكون بمنأى عن الهزات والكوارث المالية لمجرد أن صيغ هذه المنتجات تحمل الطابع الإسلامي. فالسنن الكونية تتعامل مع الحقائق ولا تبالي بالأشكال والصور. وهذا هو الذي دعا العلماء إلى الاتفاق على القاعدة المعروفة: العبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وقاعدة: الأمور بمقاصدها. فالأوامر الشرعية والسنن الكونية منسجمة متآلفة، وبقدر ما ننجح في تحقيق مقاصد الشريعة وأهدافها، بقدر ما نُوَفّق في توظيف السنن الكونية لصالحنا وصالح المجتمعات الإسلامية. [1] Global Financial Stability Report, Oct. 2008, p. 14. [2] World Federation of Exchanges, 2008 [3] الأخبار 19/10/2008م. [4] الأخبار 15/10/2008م. [5] أحكام القرآن لابن العربي 1/242. [6] المغني لموفق الدين ابن قدامة، 4/490، مكتبة الرياض. وهذا هو مذهب أبي حنيفة وأحمد. [7] المصدر السابق ص491، وهذا هو مذهب مالك والشافعي. ومع ذلك صرح الشافعي بأن "يُتأنّى في بيع المساكن بقدر ما يرى أهل البصر أنها بلغت أثمانها أو قاربتها"، الأم 3/210.
19 أكتوبر, 2011 - 11:47 ص
قبل نحو ستة أعوام، وتحديداً في فبراير 2003م، ألقى وارن بافيت، أحد أغنى أغنياء العالم ومن أنجح المستثمرين ورجال الأعمال، خطابه السنوي أمام الجمعية العمومية لشركته بيركشاير هاثواي (Berkshire Hathaway ). في هذا الخطاب وصف بافيت المشتقات المالية بأنها "قنابل موقوتة للمتعاملين بها وللنظام الاقتصادي". وأضاف: "إنها مثل جهنم: يسهل الدخول إليها ويكاد يستحيل الخروج منها". ويقول: "إن الصورة الكلية خطرة وتتجه نحو الأسوأ". ثم ختم تعليقه بقوله: "إننا نعتقد أن المشتقات أسلحة مالية للدمار الشامل". حينما أطلق بافيت هذه التصريحات، وقف البعض منها موقف الاستغراب، وبعضهم موقف الاستنكار، لأن المشتقات في نظرهم أدوات مبتكرة لإدارة المخاطر وتوزيعها بكفاءة ومن ثم السيطرة عليها وتقليلها. لكن الأيام، للأسف، أثبتت بُعد نظر هذا الرجل وصدق حدسه. فالكارثة المالية التي تجتاح العالم اليوم أحد أهم أسبابها هو المشتقات المالية، خاصة المشتقات الائتمانية (credit derivatives )، أو أدوات مقايضة مخاطر الائتمان (credit default swaps ). فما هي هذه المشتقات وكيف أدت إلى الكارثة التي نعيشها الآن؟ المشتقات الائتمانية المشتقات أدوات لتبادل المخاطر. والمشتقات الائتمانية، أو أدوات مقايضة مخاطر الائتمان، لا تعدو أن تكون في جوهرها عقد تأمين: طرف يدفع رسوماً مقابل أن يتعهد الطرف الآخر بأن يدفع له قيمة الدين المؤمن عليه حال عجز المدين عن السداد. كيف أسهمت هذه الأدوات في الكارثة؟ عندما يقرض البنك شخصاً، فإنه يحرص على أن يأخذ الضمانات الكافية للسداد لأنه إذا أفلس المقترض فالمتضرر هو البنك. لكن ماذا إذا استطاع البنك أن يؤمن على القرض وينقل مخاطر الدين إلى طرف ثالث؟ في هذه الحالة لن يتضرر البنك من إفلاس المقترض، لأن الطرف الثالث يتعهد بدفع قيمة القرض كاملاً للبنك في هذه الحالة. وعليه فليس للبنك ما يكفي من الحوافز للتأكد من ملاءة المقترض. ولذلك لم تجد البنوك صعوبة في إقراض الفئات الأقل جدارة (subprime ) لأن المخاطر يتحملها غيرهم، غالباً شركات التأمين وصناديق التحوط. التأمين على القروض شجع البنوك على أن تقرض، ثم تبيع القرض على شكل سندات، مع التأمين على هذه السندات. فمن يشتري هذه السندات يشتري ديوناً مؤمناً عليها، ولذلك لا يهمه بدوره هل المقترض قادر على السداد أو لا. وحيث أن القروض مؤمن عليها، فلا يهم ملاءة المقترض أو جدارته الائتمانية، بل المهم هو الرسوم التي يحصلها البنك وغيره من المؤسسات المالية من عمليات التمويل والتسنيد وما يتصل بها. بدون هذا التأمين لم يكن من الممكن لهذه الحلقة المشؤومة أن تتضخم وتستفحل إلى هذا الحد، ولم يكن من الممكن نشؤ ما يسمى "الأصول السامة" التي كانت بؤرة الخطر في الفقاعة والأساس الهش الذي قامت عليه سندات القروض. لقد أدت المشتقات إلى تركيز المخاطر بدلاً من تفتيتها، وإخفائها بدلاً من تقليلها. ولكن ما هي مصلحة شركات التأمين وصناديق التحوط من التأمين على هذه القروض؟ أولاً: الرسوم النقدية التي تحصل عليها، وهي رسوم مغرية إذا كانت المحفظة كبيرة. كما أن حوافز المدراء تعتمد على مقدار الدخل المتحقق، ولذلك كلما زادت الرسوم كلما زادت الحوافز. ثانياً: طالما كانت أسعار العقار أو الأصول التي يتم تمويلها في ارتفاع، فلن يكون هناك مخاطر تعثر، لأن المقترض يستطيع أن يعيد تمويل العقار بقرض جديد، أو يمكن بيع العقار لتسديد الدين والحصول على ربح إضافي. وأسعار العقار في الولايات المتحدة كانت في ارتفاع متواصل منذ 2000م، ولذلك لم يكن هناك ما يدعو للقلق من هذا الجانب. وهذا يبين كيفية نمو فقاعة الرهن العقاري. فالتأمين يشجع على الإقراض، والإقراض يساهم في رفع أسعار العقار، وارتفاع الأسعار يشجع على التأمين على القروض لانخفاض المخاطر، مما يشجع على المزيد من الإقراض، وهكذا. فأصبحت حلقة الإقراض والتأمين يغذي بعضها بعضاً، مما أدى لتضاعف حجم الفقاعة، خاصة خلال السنوات 2004 إلى أوائل 2007م، إلى أن انفجرت الفقاعة في صيف 2007م، وبدأ مسلسل الكارثة بالتتابع. ثالثاً: إن المؤمّن يمكنه بيع المخاطر إلى آخرين، إما مفردة أو مركبة مع مخاطر أخرى، على شكل سندات تحاكي سندات القروض نفسها، ويحصل على رسوم إضافية مقابل ذلك. والمشتري لهذه السندات يمكنه بدوره بيعها ومن ثم نقل المخاطر إلى آخرين. ولا يزال أعضاء السوق يتدافعون كرة الخطر فيما بينهم، كلٌ يؤمل أن الكرة لن تنفجر بيده. وكلما كان السوق أكبر واللاعبون فيه أكثر، كلما كان احتمال انفجار كرة الخطر بيد أحدهم أقل، فيكون قبول هذه المخاطر أكبر. ولهذا كان تضخم السوق من مصلحة المجازفين، وهذا ما يفسر تضاعف سوق مخاطر الائتمان أكثر من ثمان مرات خلال السنوات 2004-2007م حتى وصلت إلى 62 تريليون دولار. أخطر كازينو في العالم لكن سوق مخاطر الائتمان لم يكن لينمو بهذا الحجم لو كان شراء التأمين يقتصر على البنوك التي قدمت القروض فعلاً. الذي يميز المشتقات الائتمانية أنه يمكن لأي شخص أن يشتري التأمين من أي شخص آخر، حتى لو لم يكن لأي منهما أي علاقة بالقرض الممول للعقار. فيصبح العقد في الحقيقة رهاناً بين طرفين على ما سوف يحصل لطرف ثالث هو المقترض. فإن أفلس المقترض دفع البائع التعويض للمشتري، دون أن يحصل المقرض أو المقترض على شئ من ذلك أصلاً. وهذا ما جعل المحلل المالي لموقع السي إن إن يصف سوق مشتقات الائتمان بأنها "أكبر كازينو في العالم" (حتى المرشح الجهوري جون ماكين اعترف بأن ثقافة الكازينو سيطرت على وول ستريت). لكن هذه السوق تختلف عن الكازينو في جوانب مهمة. منها أن الكازينو يخضع لإشراف ورقابة الجهات الحكومية في الولايات التي تسمح به، بينما لا تخضع أسواق المشتقات لأي إشراف أو تنظيم مباشر من قبل الحكومة الأمريكية. كما أن الكازينو يختلف عن سوق المشتقات من ناحية أكثر أهمية. فكل مجموعة من اللاعبين في الكازينو يراهنون على عجلتهم الخاصة بهم، ولا علاقة لهم بالآخرين. فليس هناك ترابط بين مجموعات اللاعبين المختلفة. لكن في أسواق المشتقات، الجميع مرتبطون ببعضهم، والكل مرتبط في النهاية بالأسواق، خاصة سوق العقار. فأي تدهور في سوق العقار سيؤدي إلى خسارة نسبة كبيرة من اللاعبين. أضف إلى ذلك أن كل دولار خسارة في سوق العقار يمكن أن يؤدي إلى خسارة عدة أضعاف في سوق المشتقات. فحجم الديون المراهن عليها بلغ 62 تريليون دولار بنهاية 2007م، مع أن حجم الرهن العقاري في الولايات المتحدة بأكمله لا يتجاوز 10 تريليون دولار، في حين يقدر الرهن منخفض الملاءة بنحو 1.3 تريليون دولار. وإذا كانت المشتقات الخاصة بالأصول الأقل ملاءة تبلغ نحو ثلث سوق المشتقات الائتمانية، فهذا يعني أن كل دولار تم إقراضه فعلاً يتم الرهان عليه نحو 10 مرات. ويترتب على ذلك أنه في حالة تعثر المدين، فإن الخسارة لا تقتصر على المقرض الفعلي له، بل تتعداه إلى المجازفين الذين يمكن أن تتجاوز خسارتهم 10 أضعاف الخسارة الفعلية. الفرق الأهم والأكثر خطورة بين الكازينو وبين سوق المشتقات هو طبيعة اللاعبين. فاللاعبون في الكازينو هم أفراد يقامرون غالباً بأموالهم، أما في سوق المشتقات فهم مؤسسات مالية وبنوك تقامر بأموال المودعين والمستثمرين والمقرضين من المؤسسات المالية الأخرى. فالخسارة ستكون ضرراً على الاقتصاد بأكمله وليست على المقامرين وحدهم. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الاقتصاد الأمريكي يئن من وطأة الديون الهائلة المتراكمة عبر السنوات، والتي تتجاوز 30 تريليون دولار من القطاع العام والخاص، وأن أزمة الضمان الاجتماعي وتعويضات المتقاعدين بدأت تلوح في الأفق، ويتوقع أن تبلغ ذروتها في 2012م، فإن حجم الكارثة التي تنتظر الاقتصاد الأمريكي في السنوات القليلة القادمة قد يكون فوق ما نتصور. أزمة القانون إن الأزمة الحالية ليست وليدة سوء التصرف والممارسات الخاطئة فحسب، بل مهد لها وهيأ لهذه الممارسات بيئة تنظيمية وتشريعية تناسبها. فسوق مشتقات الائتمان كان شبه معدوماً في أواخر تسعينيات القرن الماضي، لكنه نما بدرجة غير عادية في مطلع القرن، بعدما أقر الكونجرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون تشريعاً في عام 2000م (Commodity Futures Modernization Act )، يمنع تنظيم وتقييد أسواق المشتقات، بل ويستثنيها من قوانين القمار التي توجد في الولايات المختلفة. ولهذا السبب لا توصف مشتقات الائتمان في العقود والوثائق القانونية بالتأمين (insurance )، مع أنها كذلك في الحقيقة، لأنها في هذه الحالة ستخضع لقوانين التأمين، بل توصف بأنها مقايضة (swaps ) لتتمتع بحماية هذا التشريع. وسبق في عام 1999م تشريع آخر (Gramm-Leach-Bliley Act ) يسمح للبنوك التجارية بالدخول في سوق الأوراق المالية والسمسرة، والتي كان يمنعها التشريع الذي صدر قبل نحو 70 عاماً (Glass-Steagall Act ). وهكذا مع مطلع القرن الحادي والعشرين، أصبح الباب مفتوحاً على مصراعيه لأهم المؤسسات المالية وهي البنوك، لتغامر بأخطر الأدوات المالية وهي المشتقات، في أهم الأصول الاقتصادية وهي العقار. النتيجة أنه خلال بضع سنوات فقط شهد العالم أسوأ كارثة مالية خلال 70 عاماً، ولا تزال فصولها لم تنته بعد. فاعتبروا يا أولي الأبصار إن جذور الأزمة التي يعاني منها العالم اليوم بدأت في القطاع المالي، وتضخمت من خلاله، ولكن الذي يدفع الثمن في النهاية للأسف هو القطاع الحقيقي وجمهور الناس. فالبداية كانت من التخفيض المصطنع لمعدلات الفائدة في مطلع القرن، الذي شجع على التوسع في الاقتراض دون وجود قيمة مضافة أو نمو في الإنتاجية. النتيجة هي فقاعة في سوق العقار. رافق ذلك مبتكرات المشتقات المالية التي حيدت مخاطر الإقراض، فلم يعد المقرض يستشعر مسؤولية القرض ويهتم بقدرة المدين على السداد، فنشأ عن ذلك الممارسات المستنكرة في استدراج العملاء وإغراقهم في الديون. أي أن الأزمة ابتدأت بالربا، وتطورت إلى الميسر، وأصبح يغذي أحدهما الآخر، لتنتهي بالكارثة. فلو لم تكن الأديان السماوية حرمت الربا والميسر لكان في الأزمات المتلاحقة التي تنشأ عنهما ما يكفي العقلاء لمنعهما. إن مشكلة الربا هي فصل التمويل عن النشاط الإنتاجي الذي يولد القيمة المضافة. فهو يفصل نمو المديونية عن نمو الثروة. ولكن نمو المديونية أسهل بكثير من نمو الثروة، إذ لا يتطلب الأمر سوى موافقة الطرفين، الدائن والمدين. لكن نمو الثروة يتطلب، بالإضافة إلى تراضي الطرفين، المهارة والمعرفة والإبداع والإنتاجية. وإذا كان نمو المديونية أسرع من نمو الثروة، فإن خدمة الديون ستنمو بما يجعلها تتجاوز الدخل، لتصبح الديون نزيفاً في النشاط الاقتصادي وعبئاً عليه، بدلاً من أن تكون عاملاً مساعداً في نموه وازدهاره. ونتيجة لانفراط عقد المديونية، يصبح الوضع الاقتصادي هشاً وحساساً لتقلبات الأسواق والأسعار بدرجة كبيرة. فأدنى هزة يمكن أن تؤدي إلى إخفاق الكثير من المؤسسات والشركات والأفراد الغارقين في المديونية. أما الميسر والرهان، فالكل يعلم أنها لا تقدم أي قيمة مضافة للنشاط الاقتصادي، وإنما وقع اللبس من التصور بأن تبادل المخاطر يمكن أن يرفع الكفاءة ومن ثم الإنتاجية. لكن تبادل المخاطر بمعزل عن الملكية يترتب عليه ما يعرف بالمخاطر الأخلاقية (moral hazard )، التي تجلت بأوضح صورة في التصرفات اللامسؤولة التي أدت إلى أزمة الرهن العقاري. ففي غياب تحمل مخاطر الملكية تتلاشى المسؤولية، ويتلاشى معها الانضباط الأخلاقي. وبذلك تتحول السوق إلى ساحة للمراهنة والاستغلال. وإذا تحولت السوق إلى ساحة للرهان، فليس هناك ما يحد من نموها وتضخمها سوى استعداد الأطرف للمجازفة. فكما هو الشأن في الربا، فإن المراهنة لا تتطلب أكثر من اتفاق الطرفين على أن يدفع أحدهما للآخر مبلغاً من المال حين وقوع الخطر مقابل رسوم محددة. فالتكلفة الابتدائية للرهان محدودة، ولذلك لا يوجد ما يعوق توسعه وتضاعفه. فالنتيجة من الميسر والربا واحدة: وهي تضاعف الالتزامات والمديونيات بعيداً عن الثروة الحقيقية، لينشأ عن ذلك ما يسمى الهرم المقلوب، حيث ترتكز جبال شاهقة من الديون على قاعدة ضئيلة من الثروة. ومع تزايد عبء هذه الديون ستعجز قاعدة الثروة عن احتمالها، لتكون الخسارة حين وقوع الخطر أضعافاً مضاعفة. ولذا كان من كمال الشريعة الإسلامية المنع من الربا والغرر، واعتبارهما أصول المعاملات المحرمة، وتفصيل أحكام ما يؤدي إلى أي منهما، مثل منع بيع الدين ومنع ربح ما لم يضمن، وما عدا ذلك فالأصل الحل. وفي ظل هذه القواعد يمتنع بروز الهرم المقلوب للديون مع الثروة الذي يميز النظام الرأسمالي، بل يصبح الاقتصاد بناء متوازناً مستقراً يتمتع بقاعدة عريضة من الثروة تستند إليها طبقة محدودة من الديون والالتزامات. هذا النموذج يجمع بين الاستقرار وبين الإنتاجية، لأن أي توسع في الديون يصحبه توسع مواز في الثروة. فهو اقتصاد يعتمد مبادئ السوق وفق ضوابط وأصول تشريعية وأخلاقية محكمة توجهه نحو الإبداع والنمو، وليس الاضطراب والانفلات. مستقبل التمويل الإسلامي إن الصناعة المالية الإسلامية تملك اليوم فرصة ذهبية لتقديم التمويل الإسلامي بديلاً عن النظام الرأسمالي وعن النظام الاشتراكي معاً. ولكن لكي يتم استغلال هذه الفرصة يجب أن تحرص الصناعة على اعتماد منتجات وأدوات مالية تجسد فلسفة الاقتصاد الإسلامي ومبادئه. أما إذا كانت منتجاتنا مجرد إعادة صياغة للمنتجات التقليدية، لتكون النتيجة في النهاية هي ذات الهرم المقلوب الذي يهدد الرأسمالية، فإننا نكون قد خسرنا مرتين: مرة حين حرمنا العالم من الاقتصاد الإسلامي، ومرة حين وقعنا نحن في مستنقع الرأسمالية واستدرجنا مجتمعاتنا الإسلامية للغرق في أوحالها. إن الفرص الذهبية لا تتكرر كثيراً، والمأمول ألا تحتاج الصناعة إلى الانتظار 70 عاماً أخرى لتثبت للعالم جدوى الاقتصاد الإسلامي.
19 أكتوبر, 2011 - 11:44 ص