في سورة يس يعرض القرآن الكريم موقف الكفار من الدعوة إلى الإنفاق على الضعفة والمساكين:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾.
والمقصود من قوله: أنفقوا، أي على من هو عاجز عن الكسب وطلب الرزق، فإن القادر على الكسب لا يستحق الصدقة، كما قال ﷺ: ”ولا حَظّ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب“. ماذا كان رد الذين كفروا على هذه الدعوة؟ قالوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟! لأول وهلة تبدو شبهة قوية، لماذا نطعم نحن هؤلاء؟ لو أراد خالقهم إطعامهم لأطعمهم!
ولكن ما حظ هذه الشبهة من النظر؟
لنبدأ بأصحاب الشبهة أنفسهم. هل هم يطبقون هذا المبدأ في حياتهم الخاصة؟ أليس الواحد منهم يطعم أطفاله وأسرته؟ لماذا لا يَكِل أطفاله إلى خالقهم؟ أليسوا هم أيضاً لو شاء الله أطعمهم؟ أم أن هذا المبدأ يطبق في حق البعض دون الآخر؟ هذا التناقض يدل على أن القضية بالنسبة للواحد من هؤلاء ليست قضية مبدأ بل مجرد ذريعة للتنصل من حقوق المجتمع ولتكديس المال.
لكن دعنا نغوص قليلاً في الشبهة نفسها. هل فعلاً إن الله تعالى لم يشأ أن يطعم هؤلاء الضعفة والعاجزين؟ من أين عرف الكفار أن الله لم يشأ أن يطعمهم؟
حقيقة الأمر إن الله تعالى قد شاء أن يطعمهم، كوناً وشرعاً.
أما المشيئة الكونية فهو قد غرس في الفطرة السليمة الرحمة والرأفة بالأطفال والضعفة والمنكسرين والمساكين. وهذه الرحمة والرأفة تدعونا لمواساتهم بحسب ما نستطيع. القليل من الناس الذين يتبعون أهواءهم هم الذين يحاربون داعي الفطرة وموجب الإنسانية.
أما المشيئة الشرعية فقد تواتر عن الرسل كلهم بلا استثناء أن الله تعالى أمر بالعطف والرأفة بالمساكين والمحرومين. وهذا متفق عليه بين الملل كلها.
إذن هل حقاً إن الله تعالى لم يشأ أن يطعم هؤلاء المساكين؟ لقد شاء الله ذلك من خلال داعي الفطرة ومن خلال رسالة الرسل التي تأمرنا بذلك. لكنه تعالى أعطى الإنسان الفرصة أن ينفذ هذه المشيئة أو يعارضها ويحاربها. وقد اختار هؤلاء المتكبرون معارضة هذه المشيئة الإلهية ومحاربتها. وبهذا يتبين أن شبهة هؤلاء المتكبرين هي في الحقيقة الدليل على بطلانها وتهافتها.
غريب هذا القرآن! إنه يعرض شبهة الخصم بأروع وأدق عبارة لا يستطيعها الخصم نفسه. لكن دقة التعبير هذه هي التي تكشف عوار الشبهة وسبب سقوطها. إنه منهج فريد للقرآن الكريم يمنح القارئ فرصة ثمينة للتأمل والتدبر. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتدبرين لكتبه العاملين بأمره المتبعين لسنة نبيه ﷺ.
لا يوجد تعليقات