بعد الحرب العالمية الثانية قامت حكومة روزفلت بتنظيم القطاع المالي على نحو صارم لمنع تكرار أزمة مشابهة للكساد الكبير The Great Depression. من ذلك وضع قيود أو سقف على مقدار الفائدة التي يشترطها المصرف على المقترضين.
لماذا؟
إذا كانت الفائدة غير مقيدة بسقف، فهذا يعني أن المصرف يستطيع إقراض أي فئة من المقترضين مع رفع الفائدة بالنسبة للمقترضين منخفضي الملاءة. وحيث إن المصرف مؤسسة ربحية، فإن لديه الحافز للإقراض بأرباح عالية ولكن مقابل مخاطر ائتمانية مرتفعة. ولكن هذا يعني رفع مخاطر المحفظة الائتمانية، ما قد يعرض القطاع المصرفي تحت ضغط المنافسة لمخاطر نظامية تهدد النظام الاقتصادي.
بالفعل نجحت هذه القيود في تحقيق الاستقرار المالي لنحو ربع قرن. مع قدوم إدارة ريجان، بدأت موجة تخفيف القيود المالية (financial deregulation) ومعها بدأ النمو غير المنضبط للقطاع المالي. ومنذ ذلك الحين بدأت الاضطرابات المالية التي بلغت ذروتها مع أكبر أزمة مالية في التاريخ في ٢٠٠٨م.
التمويل الإسلامي لا يكتفي بمنع الفائدة على القروض، بل هو يوجه التمويل ليكون من خلال المبادلات التجارية كالبيع بأجل والسلم. وهو فوق ذلك يمنع الاسترباح من غرامات التأخير وجدولة الديون التي لا تعدو أن تكون من جنس ربا الجاهلية ”أنظرني أزدك“.
هل هذه القيود تقلل من مخاطر المحفظة الائتمانية؟ أم تزيدها؟ أم لا تؤثر فيها؟
إذا كان المصرف لن يربح من غرامات التأخير وجدولة الديون، فهذا يعني أن المصرف سيكون حريصًا على سداد الدَّين في وقته من أجل توظيف المال في عمليات تمويل جديدة، وهكذا. فالتأخير إذا كان لا يدرّ ربحاً على المصرف فمصلحته حينئذ هي السداد في الأجل، وهذا يعني توظيف المال مرة أخرى وتحقيق الربح من عمليات اقتصادية إضافية. ولكن هذا يقتضي من البداية انتقاء العملاء الذين يلتزمون بالسداد في الوقت. ينتج عن ذلك أن مخاطر المحفظة الائتمانية ستنخفض بشكل كبير لأن معايير اختيار العملاء تستوجب استبعاد احتمال التأخير أصلاً.
إذن فمنع الاسترباح من التأخير، الذي هو من أظهر صور الربا، يرفع من مستوى الملاءة الائتمانية للمصرف ومن ثم يقلل المخاطر النظامية للقطاع المالي.
لكن هناك ميزة أخرى لمنع الربح من التأخير.
عندما يحصل المصرف على المال عند الأجل ويوظفه في عمليات جديدة فهذا يعني أن معدل دوران رأس المال (turnover) يرتفع، وهو ما يعني تمويل عمليات تجارية أكثر مقارنة بالقرض بفائدة الذي يسمح بالتأخير ومن ثم يؤدي إلى انخفاض معدل دوران رأس المال.
في دراسة ”الاقتصاد الإسلامي في عالم مركب“ (Islamic Economics in a Complex World) بيان الفرق بين النموذجين من خلال المحاكاة على مستوى الوحدة (Agent-based Simulation). ومن خلال هذه الدراسة يتبين أن معدل دوران رأس المال في حالة التمويل الإسلامي (الذي يمنع الربح من التأخير) أربعة أضعاف نظيره في حالة القرض بفائدة.
إذن دمج التمويل في التبادل مع منع الاسترباح من تأخير الدين يحقق نتيجتين في آن:
- تعزيز ملاءة القطاع المالي واستقراره.
- رفع كفاءة رأس المال في تمويل الاقتصاد الحقيقي.
والله أعلم.
لا يوجد تعليقات