19 أكتوبر, 2011 - 02:51 PM
أصدرت مؤسسة النقد مؤخراً تعميماً على جميع البنوك بضرورة الالتزام بعدم تطبيق رسوم أو عمولات أيًا كانت مسمياتها على حسابات رواتب موظفي الدولة وحسابات مكافآت الطلاب. والتعميم صدر بعد أن فرضت كثير من البنوك، بما فيها البنوك الإسلامية، رسوماً بمسميات مختلفة على حسابات الرواتب والمكافآت، لكون مبالغها صغيرة، ويطلق عليها رسوم الحد الأدنى للرصيد ، وتصل الرسوم إلى ريالين ونصف أو عشرة ريالات، إذا قل الرصيد عن خمسة آلاف ريال، وأحيانا إذا قل الرصيد عن ألف ريال. *** لم تكن مؤسسة النقد بحاجة إلى "فتوى" لتقرر منع هذه الرسوم، فالمسألة أوضح وأبين من ذلك. فهي ظلم بيّن على أصحاب الحسابات المتدنية، وتحيز غير مقبول للحسابات الكبيرة. لكن لماذا لم يأت المنع من المصارف الإسلامية؟ هل يعقل أن تجيز الشريعة الإسلامية هذا الظلم؟ الجواب بالتأكيد هو النفي. فالرسوم على الحسابات الجارية تدخل في الربا الذي نص عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة ... يداً بيد، مثلاً بمثل، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى" متفق عليه. فالحساب الجاري من الناحية الفقهية قرض من العميل للمصرف، وهذا محل اتفاق. والقرض شرعاً من عقود الإرفاق، فإذا وجد في القرض شرط على وجه المعاوضة، لم يعد من باب التبرعات بل أصبح من باب المعاوضات، فينطبق عليه الحديث السابق. والحديث صريح بأن أي زيادة لأي من الطرفين فهي ربا، ولذلك قال عليه السلام: "فمن زاد أو استزاد"، فسواء كانت الزيادة من المقترض أو من المقرض، فهي ربا بنص الحديث. فليست الزيادة المحرمة هي التي يدفعها المقترض، بل أي زيادة على وجه الاشتراط لأي من الطرفين تجعل المعاملة معاوضة نقد بنقد مع التفاضل والتأخير، وهو ربا بالإجماع. أضف إلى ذلك أن الحساب الجاري، لما كان قرضاً من العميل للمصرف، فربحه وخسارته على المصرف عملاً بقاعدة الخراج بالضمان، وهو منطق العدل بين الحقوق والواجبات. لكن تحميل العميل تكاليف الحساب دون أن يكون له شئ من الربح مخالفة صريحة للقاعدة. فإن كان العميل سيتحمل نصيبه من التكاليف فليأخذ نصيبه من الأرباح، أما أن يتحمل الغرم ولا يحصل على الغنم فهو مناف لمنطق العدل. ثم إن المصرف يفرق بين العملاء بحسب مستوى الرصيد. فإذا انخفض عن الحد خصم من الحساب، وإذا زاد أعفي من الخصم. فإن كانت الرسوم بحق فلماذا يعفى منها الرصيد الأعلى؟ السبب واضح وهو مقابل القرض. فالمبلغ الزائد عن الحد قرضٌ حصل مقابله العميل على إعفاء من رسوم الرصيد الأقل من الحد، فهو قرضٌ جرّ نفعاً، وهو فائدة من المصرف للعميل. كما أن اشتراط الحسم مقابل تكلفة الخدمات المصرفية يجعل المعاملة من باب سلف وبيع. فهو سلف من جهة العميل للمصرف وبيع من جهة المصرف للعميل. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن سلف وبيع، وهو عام في كل سلف وبيع اجتمعا على وجه الاشتراط وكان السلف هو المقصود. وهذا هو الحاصل هنا، فإن الحساب الجاري هو الأصل في العلاقة بين العميل والمصرف، والهدف من الرسوم هو أن يودع العميل مبالغ إضافية لتغطي أرباحُها التكاليفَ التي يتحملها المصرف. فالسلف هو المقصود ابتداء وانتهاء، فتكون معاملة منهياً عنها بالنص. إذا كان المصرف فعلاً يرغب في تغطية تكلفة الخدمات الإضافية للعملاء، فيجب أن يسعّر هذه الخدمات ويطبق رسومها على الجميع. فمن يستفيد من الخدمة يدفع مقابلها، ومن لا يستفيد لا يدفع، وهذا هو منطق العدل. وبهذا لا تكون الخدمة مشروطة في السلف لأن العميل من حقه ألا يستخدم هذه الخدمات ولا يخصم منه شئ. وتطبيق الرسوم على الجميع سيجعل التكلفة للحساب الواحد منخفضة جداً، وبذلك تتحقق مصلحة الجميع . ويجب أن يراعى في ذلك أن الخدمات الأساسية للوفاء بالقرض لا تدخل في التكاليف، مثل بطاقة الصراف ودفاتر الشيكات. فهذه الخدمات كما أنها لا تعتبر منفعة من المصرف للعميل مقابل القرض، وإنما هي وسيلة أساسية للوفاء به، فينبغي كذلك ألا تعتبر تكلفة يتحملها العميل أيضاً، سواء بسواء. *** مؤسسة النقد تستحق الشكر على هذا التعميم الذي يوافق حكمة الشريعة الإسلامية، ويمثل ترجمة عملية لمبدأ المسؤولية الاجتماعية. وليست هذه المرة الأولى التي تبادر فيها المؤسسة بذلك، بل سبق أن أصدرت تنظيم قروض الأفراد في أواخر 2005م، بعد أن بلغت مديونية الأفراد حداً لا يمكن الاستمرار فيه، ونتوقع منها المزيد. والمنتظر من المصارف الإسلامية أن تكون سباقة في هذه المجالات، وأن تقدم للمجتمع وللعالم الصورة النموذجية للتمويل الإسلامي الذي يحقق التوازن بين الحقوق الخاصة والعامة، وبين الربحية والمسؤولية الاجتماعية. والحمد لله رب العالمين. المقالات بحوث الكتب الفتاوى الإستشارات bohooth_various الصوتيات مرئيات