مدونة

المجتمع الاستهلاكي

19 أكتوبر, 2011 - 02:50 PM


شارك عبر :              0       1697    

النزعة الاستهلاكية (consumerism ) ظاهرة قديمة قدم المجتمعات البشرية، ويعبر عنها بالترف والإسراف والتبذير. وقد كانت موجودة في المجتمع الجاهلي حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما أشار إليه قوله تعالى حكاية عن بعض رموز الجاهلية: "يقول أهلكتُ مالاً لبداً"، فهو يتفاخر بأنه أهلك المال في أنواع المتع والمظاهر الاجتماعية، وهذا هو الاستهلاك التفاخري (conspicuous consumption ) المبدد للثروة. وقد شدد القرآن في استنكار هذه الظاهرة والتحذير من هذا السلوك في آيات متعددة. ويلاحظ أن معظم هذه الآيات نزلت في العهد المكي، مما يدل على أن علاج هذه المشكلة من القضايا الكلية والأساسية في الاقتصاد الإسلامي، وليس من التفاصيل الجزئية التي تقبل التأجيل إلى العهد المدني. تبديد الثروة أبرز مشكلات الإنفاق التفاخري هو تبديد الثروة وضياع المال ومن ثم تدمير الاقتصاد والمجتمع. وذلك أن المقصود من هذا الإنفاق هو إبراز المنزلة والتفوق الاجتماعي على الآخرين، فإذا أنفق الآخرون أيضاً رجع الوضع النسبي إلى ما كان عليه، لكن بعد خسارة الإنفاق الذي لم يحقق الهدف منه. فالإنفاق التفاخري والمظهري لعبة خاسرة لأن الإنفاق ليس مقصوده إشباع الحاجات الأساسية، وإنما التفوق النسبي، فإذا أنفق الجميع، بقي الوضع النسبي كما هو، لكن مع انخفاض مستوى الثروة وارتفاع المديونية. ويدرك الاقتصاديون الأضرار الكبيرة لهذا السلوك الاجتماعي، ومع التحذيرات المتتكررة لكن تظل النزعة الاستهلاكية غالبة. فما أهم الأسباب وراء هذه الظاهرة؟ البحث عن السعادة منشأ النزعة الاستهلاكية يبدأ من البحث عن السعادة. فالجديد له لذة، وهذه اللذة قد توهم المرء أنها هي السعادة التي ينشدها ويطلبها. ولكن لذة الجديد تتضاءل وتضمحل مع الوقت، فيجد المرء نفسه يبحث مرة أخرى عن السعادة، فيتجه إلى الشراء ثانية، وهكذا. وكلما ازدادت النزعة الاستهلاكية، اشتدت الحاجة للبحث عن السعادة، فيصبح حال المرء كمن يشرب من البحر: لا يزيده الشرب إلا ظمأً. لكن السعادة الحقيقية ليست في الاستهلاك المادي، بل في الإيمان وعمل الخير والبر والإحسان إلى الخلق. فالإيمان يورث من الطمأنينة والرضا ما يغني المرء عن لذة الاستهلاك. وهذا ما يدل عليه ما ورد في الحديث من ‏أن‏ ‏رجلا ‏كان يأكل أكلا كثيراً فأسلم، فكان يأكل قليلا، فذُكر ذلك للنبي‏ ‏صلى الله عليه وسلم فقال: "إن المؤمن يأكل في معيّ واحد، وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاء" متفق عليه. فكلما كان الإنسان أقل إيماناً وأقل شعوراً بالرضا، كلما كان ميله للاستهلاك أكبر بسبب حاجته للسعادة والرضا. ولهذا تبرز ظاهرة الترف والنزعة الاستهلاكية مع ضعف الإيمان وضعف القيم الأخلاقية، وهو ما يلاحظ اليوم بأوضح صورة. الأفق الزمني وبالإضافة لعنصر الرضا فإن الإيمان له أثر بالغ في نظرة الإنسان للمستقبل. فالإيمان باليوم الآخر يجعل الإنسان أبعد نظراً وأقل استعجالاً على الملذات الحاضرة. وفي المقابل فإن قصر النظرة للمستقبل وارتفاع معدل التلهف الزمني يعزز النزعة الاستهلاكية. ويشكو الاقتصاديون اليوم من ارتفاع معدل التلهف الزمني وقصر النظرة المستقبلية بما يغلب القرارات الآنية ويضر بالقرارات الجوهرية بعيدة المدى. وهذه المشكلة تضر كثيراً في مجالات الاستثمار، حيث يصبح هم المرء هو الحصول على الربح السريع في أقصر وقت لكي يلبي الطلب الاستهلاكي الحاضر. وهذا من أهم أسباب نشؤ الفقاعات المالية في أسواق الأسهم وغيرها من الأسواق المالية. وقد برز للعيان مؤخراً حجم الآثار الفادحة التي يمكن أن يخلفها هذا النوع من التفكير. فالاستعجال والتلهف على الحاضر على حساب المستقبل يغذي الاستهلاك المفرط من جهة، كما يضر بالاستثمار من جهة أخرى. التقدم الصناعي في الماضي كانت الأسرة تستهلك في الغالب ما تنتجه بنفسها، من الحبوب والألبان والألبسة وغيرها من احتياجاتها. وما فاض عنها من إنتاجها يمكن لها أن تبيعه لتعزز وضعها الاقتصادي. مع التقدم الصناعي وتطور خطوط الإنتاج وتحقق اقتصاديات الحجم (economies of scale )، أصبح إنتاج هذه السلع محلياً غير مجد، فالمصانع توفرها بتكلفة أقل وجودة أفضل. وبذلك بدأ التحول، قبل نحو 100 عام، نحو النمط الاستهلاكي. فالأسرة اليوم أصبحت مستهلكة لما تنتجه المصانع الكبيرة، ولم تعد كما كانت في الماضي تستهلك ما تنتجه بنفسها في أكثر احتياجاتها. وهذا التطور يفترض أن يكون مفيداً من حيث تلبية كثير من الاحتياجات الأساسية وتوفير العناء والمكابدة التي كانت الأسرة تتحملها في الماضي، ومن ثم يرفع مستوى الإنتاجية في المجالات الأخرى. لكن ما حصل بعد ذلك هو أن هذا الاتجاه نحو الاستهلاك صار يتزايد وينمو على حساب الإنتاجية. وأحد الأسباب وراء ذلك غلبة الجشع المادي وطلب الربح لدى الشركات المنتجة. فصارت تسخر قدراتها لتغذية النزعة الاستهلاكية لتحقق المزيد من المبيعات ومن ثم المزيد من الأرباح. وأصبح السلاح الأمضى أثراً في هذا الاتجاه هو الدعاية والإعلان، التي نجحت في إقناع الجمهور بحاجته للسلع والخدمات التي تنتجها هذه الشركات، حتى لو لم تكن الحاجة قائمة فعلاً. وقد كتب الاقتصادي المعروف جون كينيث جالبيرث (John Kenneth Galbraith ) كتابه: مجتمع الوفرة (Affluent Society ) في منتصف القرن الماضي منتقداً ظاهرة الاندفاع نحو إنتاج السلع الاستهلاكية على حساب الخدمات العامة، وظاهرة تشجيع الاستهلاك المصطنع لدعم الإنتاج ومن ثم الربحية. ولكن بقيت هذه الظاهرة واستمر الكتاب في انتقاد هذه الظاهرة والتحذير منها. لكن في غياب القيم والمبادئ التي تضبط السلوك فسيكون من الصعب تحجيم المشكلة والسيطرة عليها. وقد انتقلت هذه الظاهرة للأسف إلى البلاد الإسلامية، خاصة دول الخليج، وبدأت الأعراض نفسها التي وجدت في الغرب تظهر في مجتمعاتنا. وما لم يتم تدارك الأمر فستكون النتائج غير مشجعة على الإطلاق. التمويل لم تقتصر محاولات التأثير على سلوك المستهلك على الشركات المنتجة للسلع الاستهلاكية، بل تعدته إلى مؤسسات التمويل والمصارف التي ما فتئت تغري الجمهور بالاقتراض أو الاستدانة لتلبية الاحتياجات الكمالية أو المفتعلة. ويكفي متابعة الإعلانات ليدرك المرء حجم التأثير الذي تمارسه البنوك والمؤسسات المالية على تشجيع العملاء على الاستدانة لتمويل الاستهلاك غير المبرر في أكثر الأحيان. النتيجة: الغرق في الديون لسنوات طويلة إلى الأمام. وحسب إحصائيات مؤسسة النقد فقد ارتفعت القروض الاستهلاكية في المملكة من 73 مليار في 2003م إلى 115 مليار في 2004م، ثم إلى 180 مليار في 2005م، وبسبب تدخل مؤسسة النقد أواخر 2005 بقي حجم المديونية في 2006م كما هو تقريباً عند 180 مليار ريال، وارتفع قليلاً في 2007م إلى 182.6 مليار وزاد الطين بلة شيوع الحيل الربوية التي تؤدي وظيفة القرض الربوي نفسها وتوهم المستهلك بسلامة مسلكه، مع كونها تفرغ التمويل الإسلامي من أهم خصائصه، وهو كبح جماح المديونية وربطها بالقيمة المضافة المولدة للثروة. فهناك أدوات للتمويل النقدي، وإذا كنت مديناً، فيمكنك تجديد الدين والحصول على المزيد من التمويل من خلال زيادة حجم المديونية وإطالة مدتها، وهو عين ربا الجاهلية: أنظرني أزدك. ولم يقتصر التحايل على الربا بل امتد ليشمل الميسر، فصارت المتاجر تعلن عن جوائز سحب تصل قيمتها عشرات بل مئات أضعاف قيمة الشراء، فيصبح المقصود من الشراء ليس السلع والخدمات بل الوهم الكاذب في الحصول على الجائزة. فهو في الحقيقة ميسر مغلف بستار الشراء والبيع المشروع، كما أن الحيل الربوية ربا مغلف بستار البيع والشراء المشروع. وهكذا تضافرت القطاعات المختلفة وتكالبت على المستهلك المسكين لتغرقه في الديون ووهم الكسب السريع ولتحطم قدرته الإنتاجية، وقد وَجدَت لديه للأسف من الاستجابة ما يشجعها على المضي قدماً في هذه الدوامة الاستهلاكية. المخرج 1. إن المخرج من هذه الدوامة يجب أن يبدأ من مركز التحكم في السلوك البشري، وهو قلب الإنسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". فمنبع المشكلة كما سبق هو البحث عن السعادة من خلال لذة الاستهلاك. لكن هذه اللذة لا يمكن أن تلبي شوق الإنسان الدفين نحو السعادة والرضا، بل لا يحققها سوى الإيمان والبر والعمل الصالح. ومن الممكن أن يوجه الإنسان همته ووقته نحو الأعمال المفيدة غير المكلفة، وما أكثرها. فالقراءة والكتابة والرياضة وسائر الهوايات والأعمال النافعة المفيدة يمكن أن تحقق قدراً مقبولاً من الرضا والسعادة دون الوقوع في حمى الاستهلاك وتبديد الأموال واستنزاف الثروة. وقد قيل: إن المشغول لا يُنفق، فمن أشغل وقته وذهنه بما هو مفيد انصرف عن الإنفاق والاستهلاك غير المفيد. 2. تنمية قيم الإنتاج والمسؤولية. فالتطور الصناعي الذي سبقت الإشارة إليه حقق الكثير من المنافع للمجتمعات المعاصرة، لكنه في الوقت نفسه كرس روح السلبية والاعتماد على الآخرين، وصار الإنسان أشبه ما يكون عالة على أصحاب العمل بعد أن كان هو سيد نفسه فيما مضى وهو المسؤول عن تحصيل دخله وثروته. وتغيير هذا النمط الاجتماعي يتطلب إحياء قيم الاعتماد على النفس وبناء المشاريع الصغيرة وحسن التخطيط والادخار للمستقبل. ومع التقدم التقني الهائل في مجال الاتصالات والمعلومات، أصبح من السهل على الشخص أن يدير أعماله من منزله وينجح في بناء عمل مدر للدخل بدرجة مقبولة دون تكاليف كبيرة. كل ما يتطلبه الأمر هو الهمة العالية والاعتماد على النفس، مع القدر الضروري من الثقافة المالية والاقتصادية، التي تكاد تكون مغيبة بالكامل للأسف عن مناهجنا العامة. 3. الوقوف بحزم أمام مظاهر الإنفاق والاستهلاك التفاخري القاتل والمدمر للاقتصاد الوطني. وهذا يتطلب تضافر الجهود الرسمية وغير الرسمية في وضع القيود الأخلاقية والتنظيمية أمام الإسراف والمباهاة المذمومة. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام المتباريين. والمتباريان هما اللذان يتنافسان في مظاهر الكرم والإنفاق، فيدعو كل منهما لوليمة أو مناسبة ينفق عليها أكثر من صاحبه. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن حضور طعام الإثنين معاً سداً للباب من أصله. فالواجب على المسؤولين والعلماء والأعيان ورجال المال والأعمال التعاون والتآزر في مكافحة هذه الظاهرة. وسبقت الإشارة إلى تدخل مؤسسة النقد في تقييد حجم القروض الشخصية ومدتها ونسبتها من الراتب، ولولا هذا التدخل لاستمر طوفان الديون في إغراق الأفراد دون رادع. ولذلك يجب على الشركات التجارية والمصارف استشعار مسؤوليتها الاجتماعية في ترشيد الاستهلاك والإنفاق وتوجيه رؤوس الأموال ومصادر التمويل بدرجة أكبر نحو المشاريع الإنتاجية المولدة للقيمة، وتقليص توجيهها نحو المجالات الاستهلاكية قصيرة الأجل. 4. إحياء النشاط غير الربحي وعلى رأسه فريضة الزكاة، الركن الثالث من أركان الإسلام. فالزكاة والقروض المجانية بسبب طبيعتها غير الربحية تُوجه الإنفاق نحو الاحتياجات الأساسية وليس الكمالية أو التَرَفيّة. فكلما كان هذا القطاع أكثر نضجاً كلما قل التوجه نحو الاستهلاك التفاخري والبذخ الاجتماعي. ولبالغ الأسف فإن هذا القطاع خصوصاً يعاني لدينا من تخلف مريع مقارنة مع القطاع الربحي، وهذا نقيض ما جاءت به النصوص الشرعية وأكدت عليه فيما لا يحصى من المناسبات من وجوب التعاون والتراحم والبر والإحسان. 5. ترشيد التمويل الإسلامي بما يحقق مقاصد الشريعة الغراء، والبعد عن الفتاوى الشكلية التي تجعل صورة العقد هي الأساس في الفتوى وتهمل وتعرض عن الحقائق والمعاني والمآلات. ويكفي أن ننظر في الأرقام السابقة لنعلم حجم المديونية الهائلة التي وقع فيها الأفراد، ونسبة كبيرة منها، تتجاوز 50% في السنوات الأخيرة، تصنف ضمن التمويل الإسلامي. ومع ذلك فالنتيجة هي نفسها، بل إن إسلامية الصيغة شجعت الكثير من الأفراد على الاستدانة بعد أن كانوا يمتنعون عن ذلك خشية الوقوع في الربا. كما يكفي أن نعلم أن نسبة كبيرة من تمويل المجازفات في سوق الأسهم التي ضخمت الفقاعة ومهدت للكارثة تمت من خلال أدوات تصطبغ بالصبغة الإسلامية. ولو كانت الفتاوى تنظر للمآل، كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما سبقت الإشارة إليه، لما كانت تسمح أصلاً بمثل هذه الديون الضارة التي لم تجلب للاقتصاد سوى الدمار المادي والمعنوي. والبعض يظن أن كل بيع فهو مشروع لعموم قوله تعالى: "وأحل الله البيع وحرم الربا". وهذا خطأ فادح، لأن البيع هنا يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور". فالبيع المشروع هو البيع المبرور، وهو المفيد النافع. فيخرج بذلك كل ما كان ضاراً لأحد الطرفين (فضلاً عما يضر بهما)، كما هو الحال في الإسراف والتبذير الذي يضر المشتري لمصلحة البائع، فهو وإن حصل بعقود مشروعة في الظاهر، لكنها لما كانت غير مفيدة بل ضارة بالمبذر المسرف، كان حكمها التحريم بالنص والإجماع. وهكذا الحيل الربوية التي لا تحقق أي قيمة مضافة أو منفعة للمدين المحتال، بل هي مجرد وسيلة للحصول على النقد الحاضر مقابل أكثر منه في الذمة. فلا يمكن لعاقل أن يقول إن هذه البيوع تدخل في البيع المبرور المبارك الذي امتدحه النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه. وهكذا القول في الحيل على الميسر من خلال الجوائز التي تغري بالشراء والإنفاق لا لشئ إلا لمجرد وهم الحصول على الجائزة كما سبق. فالاقتصاد الإسلامي لا يتحقق إلا بالأخذ بالشريعة المطهرة كلها، نصها وروحها، أحكامها ومقاصدها. وبدون ذلك فليس هناك أي معنى للقيود الشكلية الفارغة من المضمون، فهي لا تزيد المسلمين إلا زهداً في الشريعة، ولا تزيد غير المسلمين إلا احتقاراً للصورة المشوهة للاقتصاد الإسلامي، كما صرح بذلك الإمام ابن القيم قبل أكثر من 700 سنة، وكما يصرح به أهل الاختصاص اليوم. والحمد لله رب العالمين.

    لا يوجد تعليقات