مدونة

التقلبات الاقتصادية

19 أكتوبر, 2011 - 02:48 PM


شارك عبر :              0       603    

لا تزال تداعيات الأزمة العالمية تتطور وتتوالى، ويمتد أثرها على الاقتصاد الحقيقي بعد الآثار الكارثية التي خلفتها على القطاع المالي. إن الأزمة التي نعيشها اليوم نشأت -باتفاق المحللين- من الإفراط في الالتزامات والمديونيات مقابل الأصول الحقيقية، وهو ما يطلق عليه الرفع الائتماني (leveraging ). والانهيار الحاصل الآن هو تخفيض لهذه الالتزامات (deleveraging ) لتتوافق مع القاعدة الرأسمالية للمؤسسات المالية. إن آليات التمويل السائدة اليوم تسمح بنمو المديونية بمعدلات عالية تفوق بكثير معدلات نمو الثروة والأصول الحقيقية. ونتيجة لذلك يختل البناء الاقتصادي، حيث تقوم جبال شاهقة من الديون والالتزامات على قاعدة محدودة من الثروة الحقيقية، وهذا ما يسمى الهرم المقلوب. هذا البناء غير قابل للاستمرار لأن القاعدة الضئيلة لا يمكنها أن تحتمل العبء المتزايد من أهرامات الديون الهائلة. ولذلك لا مفر من انهيار هذه الأهرامات والعودة إلى الوضع الطبيعي الذي تكون فيه قاعدة الثروة أكبر من عبء المديونية. ولكن مع الآليات السائدة ستعود المديونية إلى النمو بأسرع من الثروة، ليتكرر الخلل، ويعود الانهيار مرة أخرى، وهكذا. إن هذا النظام، بهذا الشكل، يمثل عبئاً كبيراً على المجتمعات الإنسانية، وتتزايد تكلفة بقائه باطراد. فإذا أردنا بناء نظام اقتصادي مستقر وقابل للاستمرار والنمو، فيجب معالجة العلاقة بين المديونية والثروة معالجة جذرية لضمان تجنب هذه الكوارث مستقبلاً. لقد دعا رئيس الجمهورية الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى "نظام مالي عالمي جديد". كما دعا رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون إلى بناء أنظمة "للإنذار المبكر" ضد الكوارث المالية. فما الذي يمكن أن يضيفه الاقتصاد الإسلامي في هذا الخصوص؟ إن الكارثة المالية تحصل نتيجة لاختلال علاقة المديونية بالثروة. فإذا أردنا التوقي من وقوع الكارثة، فعلينا بناء مؤشرات لنمو المديونية تحدد ما إذا كانت المديونية تنمو بشكل طبيعي يخدم بناء الثروة، أو أنها تسير بالاتجاه الذي يقود نحو الكارثة. فإذا كان نمو المديونية لا يقابله نموٌ موازٍ في الثروة، فهذا بمثابة ناقوس للخطر، لأن هذا النمو إذا استمر، سيؤدي إلى تفاقم الديون على حساب الثروة، ومن ثم الانهيار. ولكن ما هو هذا الدَّين الذي ليس له مقابل من الثروة؟ إنه لا يعدو أن يكون الربا باصطلاح الفقه الإسلامي. فالعلماء عرفوا الربا بأنه "زيادة لا يقابلها عوض." [1] وهذا الفهم الدقيق للربا يبين كيف يكون الربا مصدر خطر على النظام الاقتصادي. فنشوء دين في الذمة ليس له مقابل من الإنتاج والقيمة المضافة يعني إمكانية نمو الدين بمعدلات تتجاوز معدلات نمو الثروة، وهو ما ينتهي إلى اختلال البناء الاقتصادي، مما يهدد استقرار النظام، كما سبق. إن هذه الحكمة نص عليها القرآن بجلاء في أول آية نزلت بالتحريم الصريح للربا: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾ (آل عمران 130). والأضعاف المذكورة في الآية الكريمة منسوبة إلى أصل الدَين الذي له ما يقابله من الثروة. فالربا يؤدي إلى أن يتضاعف الدَينُ بأضعاف الثروة الحقيقية للمجتمع، وهو الخطر الذي يهدد الاقتصاد وينذر بالكارثة. فإذا أردنا تجنب الكوارث المالية وبناء نظام اقتصادي يجمع بين الاستقرار والإنتاجية، فإن من أوائل المؤشرات التي تحمي هذا النظام هو اجتناب الربا. إنظار المعسر إن تحريم الربا هو أحد ركائز الاقتصاد الإسلامي، لكنه ليس الركيزة الوحيدة. لقد قرن القرآن الكريم في سورة البقرة بين تحريم الربا وبين أمر آخر في غاية الأهمية، ألا وهو إنظار المعسر، كما قال تعالى: ﴿وإن كان ذو عُسرة فَنََظِرةٌ إلى مَيْسَرة﴾ (البقرة 280). وإنظار المعسر، بإجماع العلماء، فريضة واجبة، وليس أمراً مستحباً يجوز تركه أو التغاضي عنه. إن أهمية هذا المبدأ لا تقتصر على القيمة الأخلاقية والإنسانية التي يجسدها، بل هو، بالإضافة إلى ذلك، يؤدي وظيفة اقتصادية في غاية الأهمية، ربما لم تكن أكثر وضوحاً قبل الأزمة التي نعيشها اليوم. فالأزمة كما نعلم بدأت مع تعثر المقترضين من ذوي الملاءة المنخفضة. هذا التعثر أدى إلى تراجع في تمويل القروض العقارية، ومن ثم في تراجع أسعار العقار، مما فاقم من مشكلة التعثر، وأدى إلى سلسلة من الإخفاقات في المؤسسات المالية والمصرفية، ثم انتقلت العدوى إلى بقية دول العالم. فإذا كان الانهيار ابتدأ من تعثر السداد، فإن من أهم عوامل تطويق الأزمة ومحاصرة تداعياتها هو إمهال المدينين غير القادرين على السداد. والفقه الإسلامي لا يمنع من بيع مال المدين الذي عجز عن السداد، لكن الفقهاء متفقون على استثناء ما لا يَستغني عنه المدين، ومن ذلك المسكن. لكن العجب لا ينقضي من عظمة الفقه الإسلامي، حين نجد أن ثلة من كبار الفقهاء نصوا على أن المعسِر "لا تباع دارُه التي لا غِنى له عن سُكناها".[2] والعلماء الذين أجازوا بيع دار المعسر نصوا على أنها " تُباع ويُكترى له بَدلُها".[3] فأئمة الفقه الإسلامي متفقون على ضرورة ضمان السكن للمدين، وأن عجزه عن السداد لا يحرمه هذا الحق، ولذلك فهو يدخل في وصف المعسر الذي يستحق الإنظار. وإذا كان المدين الذي ثبت عجزه عن السداد لا يباع مسكنه الذي لا يَستغني عنه، فإن إنظارَه في هذه الحالة من شأنه أن يطوق تداعيات الانهيار الذي نشهده اليوم، لأنه يحفظ أسعار العقار من الهبوط أو على الأقل يقلل من سرعة انخفاضها. وهذا يحقق مصلحة الدائن والمدين معاً: فالمدين ينتفع بالإمهال، في حين يحتفظ الدائن بقيمة أصوله متماسكة، مما يقلل احتمالات الإفلاس والانهيار. وإنظار المعسر يمتد أثره الاقتصادي إلى أبعد من ذلك. فإن الدائن إذا علم مسبقاً أنه لن يستطيع الاسترباحَ من المعسر أو بيعَ ماله الذي لا يَستغني عنه، فإنه سيكون أكثر حذراً في منح الائتمان والتمويل ابتداءً. والأزمة التي نمر بها الآن نشأت كما نعلم من التساهل في إقراض ذوي الملاءة المنخفضة ممن هم مظنّة الإعسار أكثر من غيرهم. فتطبيق مبدأ إنظار المعسر كان يمكن أن يحول دون التوسع في إقراض هذه الفئة، ويُقلّل مِن ثَمّ احتمالات الانهيار من البداية. التقلبات الاقتصادية إن حكمة القرآن الكريم في الجمع بين تحريم الربا وبين إنظار المعسر في سياق واحد يتجلى جانبٌ منها في ضوء التقلبات الاقتصادية التي نشهد اليوم واحدة من أبرز صورها. فالدورات الاقتصادية تمر إجمالاً بمرحلتين: مرحلة الصعود والنمو، ومرحلة الهبوط والانكماش. ومن أهم عوامل الكارثة المالية هو الصعود غير المنضبط الذي يصاحبه الإفراط في تسهيل الائتمان، مما يؤدي إلى مبالغة في قيم الأصول. هذا بدوره يشجع على الاستدانة برهن هذه الأصول، مما يزيد من ارتفاع أسعارها ومن ثم الاسترسال في تسهيل الائتمان، وهكذا، لتصبح السوق في حالة فقاعة (bubble ) غير قابلة للاستمرار. فإذا وُجد أي سبب يؤدي إلى تراجع قيم الأصول، اضطر المدينون إلى بيع بعض هذه الأصول لزيادة قيمة الرهن. ولكن بيع الأصول من شأنه أن يخفض من أسعارها مرة أخرى، مما يتطلب المزيد من البيع لتغطية قيمة الرهن، وهكذا حتى تنهار السوق وتتحقق الكارثة. وتحريم الربا من شأنه أن يضبط التوسع في الائتمان بحيث لا تتحول السوق في مرحلة الصعود إلى حالة الفقاعة التي تهدد الاقتصاد. أما في حالة الهبوط فإن إنظار المعسر من شأنه أن يقلل من معدل تراجع أسعار الأصول ومن ثم يجنب السوق الانزلاق إلى حالة الانهيار. فالجمع بين هذين المبدأين من شأنه أن يحتوي تقلبات الأسواق ويسيطر على عوامل الانهيار، دون أن يمنع السوق من أداء وظائفها الأساسية. فالاقتصاد الإسلامي لا يزعم أنه قادر على استئصال التقلبات الاقتصادية، لكن مبادئه قادرة إذا طبيقت على نحو صحيح، أن تمنع هذه التقلبات أن تتحول إلى كوارث تدمر حياة البشرية وثرواتها. رسالة الإسلام إن تحريم الربا ووجوب إنظار المعسر لم تنفرد بهما الشريعة الإسلامية، ولم يكن محمد، صلى الله عليه وسلم، أول من دعا إليهما. بل هما من المبادئ التي دعا إليها جميع الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وأجمعت عليها الأديان السماوية والرسالات الإلهية على مر التاريخ الإنساني. فهي قيم كلية مشتركة بين الإنسانية، لا تختص بها مجتمعات دون أخرى، ولا أديان دون غيرها. ولذا فإن قادة العالم وحكماءه مدعوون لاستلهام هذه القيم واعتمادها في أنظمتهم التشريعية والمالية إذا كان العالم حريصاً على تجنب مثل هذه الكوارث مستقبلاً، وهذ هو ما تدعو إليه مبادئ الاقتصاد الإسلامي. [1] أحكام القرآن لابن العربي 1/242. [2] المغني لموفق الدين ابن قدامة، 4/490، مكتبة الرياض. وهذا هو مذهب أبي حنيفة وأحمد. [3] المصدر السابق ص491، وهذا هو مذهب مالك والشافعي. ومع ذلك صرح الشافعي بأن "يُتأنّى في بيع المساكن بقدر ما يرى أهل البصر أنها بلغت أثمانها أو قاربتها"، الأم 3/210.

    لا يوجد تعليقات