لماذا دعا قوم سبأ أن يباعد بين أسفارهم؟
ذكر المفسرون أن قوم سبأ كانوا يسافرون من اليمن إلى الشام، وكان المسافر يجد في كل مسافة نصف يوم تقريباً قرية ليستريح فيها ويأكل ويشرب. فكان المسافر لا يخاف ولا يحتاج إلى مؤنة لهذا السفر البعيد. ﴿وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمۡ وَبَیۡنَ ٱلۡقُرَى ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَا قُرىً ظَـٰهِرَة وَقَدَّرۡنَا فِیهَا ٱلسَّیۡرَۖ سِیرُوا۟ فِیهَا لَیَالِیَ وَأَیَّامًا ءَامِنِینَ﴾.
ما حصل بعد ذلك شئ غريب. أراد القوم أن تطول المسافة بين كل قرية وقرية، وأن يصبح السفر أكثر بعداً وكلفة ومشقة. لكن لماذا؟
ذكر المفسرون سببين.
الأول: فعلوا ذلك ليتطاول الأغنياء على الفقراء. فالغني هو الذي يملك الزاد والراحلة النجيبة التي توصله المسافات البعيدة. فإذا تباعدت القرى قلّ عدد المسافرين، وصارت هذه القرى وخدماتها مقصورة على القلّة أو النخبة، فتزداد متعتهم بذلك على حساب الأغلبية من غير القادرين.
الثاني: مع تباعد السفر ترتفع تكلفة التجارة ومن ثم ترتفع أرباحهم منها. تقارب السفر يقلل المخاطر ومن ثم يقلل التكلفة، وهذا يعني انخفاض الأرباح. أما مع تباعد السفر وارتفاع مخاطر النقل والسفر، سترتفع الأرباح.
يا سبحان الله! هذا هو بالضبط ما يحصل في النظم الرأسمالية. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، لا تريد شركات التأمين الطبي أن يحصل جميع المواطنين على الضمان الطبي، لأن هذا يقلل أرباحهم. يريدون رفع تكلفة العلاج والدواء من أجل زيادة أرباحهم، ولكن هذا بالضرورة يجعل نسبة كبيرة من الناس غير قادرة على الحصول على الخدمات الطبية. وهكذا الحال في سائر السلع والخدمات.
القِلّة يريدون تركيز الثروة والاستئثار بها، ولكن هذا يقتضي جعلها بعيدة المنال بالنسبة للغالبية من الناس. عندما يصل مجتمع إلى المرحلة التي يجعل فيها الخدمات العامة ”بعيدة المنال“، فهذا مؤذن بخراب هذا المجتمع ونهايته.
***
بقي أن يقال: إن العذاب الذي نزل بقوم سبأ لم يقتصر على الأغنياء فحسب، بل شمل الغالبية منهم: ﴿وَلَقَدۡ صَدَّقَ عَلَیۡهِمۡ إِبۡلِیسُ ظَنَّهُۥ فَٱتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِیقاً مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾. وهذا يعني أن الغالبية، حتى من غير الأغنياء، كانوا مؤيدين لهذه ”الخطة الاقتصادية“. فما الذي يجعلهم يؤيدون خطة تخدم الأغنياء على حساب مصلحتهم؟
هناك أكثر من سبب قد ينخدع به هؤلاء، قد يكون من أبرزها الأمل أن يلحق الفقير بركب الأغنياء. فإذا رأوا أن أرباح التجارة ارتفعت صار كل واحد منهم يؤمل أن يكون من الرابحين. طبعاً يستحيل أن يربح الكل في هذه اللعبة، بل من يربح سيكون على حساب من يخسر. لكن الوهم الخادع يجعل كل واحد منهم يمنّي نفسه أن يكون هو الرابح وغيره الخاسر. والنتيجة أن الغالبية يؤيدون هذه السياسات التي تنتهي إلى خسارتهم لمصلحة الأغنياء.
الحقيقة المؤسفة أن كثيراً من الناس ينقاد بسهولة لذوي النفوذ، حتى لو كان ذلك في غير مصلحتهم. انظر كيف يؤيد أتباع ترمب سياساته الفاشلة مع أنها في النهاية تضرهم ولا تخدم سوى القلة فاحشة الثراء.
لا يوجد تعليقات